تحميل إغلاق

كل عام وأنت بشر

كل عام وأنت بشر

يا لأحزان الكنائس اليوم، يا لآلام المسيح وهو يشهد كل هذا الدم يسيل في فلسطين، مسقط رأسه، دون أن يتحرك البشر، الذين من أجلهم ضحى المسيح وتحمل آلاماً وعذابات فوق الوصف كما تقول العقيدة المسيحية، بشكل فاعل وحقيقي لإيقاف جريمة لا يمكن الاختلاف حول حجم بشاعتها: جريمة قتل أطفال ودفنهم تحت الأنقاض.

بأي وجه عدت يا عيد الميلاد، بأي روح سيهنئ الناس بعضهم البعض في أعياد رأس السنة؟ كيف ستظهر أفراحك والأطفال يُنتشلون أشلاءاً من تحت التراب والأنقاض، والأمهات تبحث عن “أجزاء” من أجساد أطفالهن، في أمل غايته أن يدفن الطفل كاملاً وأن يرقد رقدته الأخيرة سالماً بعد أن خانته الحياة بنظامها وتحضرها وحقوق إنسانها ومنظماتها ومحاكمها الدولية؟ أي أمل بقى قيد التمسك به وأي أمان أصبح ممكن التحقيق بعد أن دفنت غزة أكثر من سبعة آلاف طفل في أقل من شهرين؟

ماذا سنقول لبعضنا البعض في يوم 1 يناير 2024؟ عساها سنة سعيدة؟ عسى القادم من الأيام أفضل؟ اللهم احفظ حيواتكم وأبنائكم وسدد خطاهم في القادم من الأيام؟ وماذا عن الآلاف الذين أصبحوا بلا أبناء؟ والآلاف المقابلة لهم الذين أضحوا بلا آباء وأمهات؟ ماذا عن الثكل الجمعي واليتم الجمعي والجوع والعطش والمرض والألم والعذاب والضياع والنزوح والتشرد الجمعيين؟ ماذا سنقول في كل ذلك وبأي وجه سنواجه هذه العذابات ونحن نلبس القبعات على الرؤوس وننفخ في زمامير الزينة ونطرب لنغمات الموسيقى؟

ستمر الأيام وسيتحول الحاضر إلى تاريخ يعاير الدهر به إنسانيتنا تماماً كما تعايرنا ذكرى المذبحة الأرمنية والمذابح النازية ومآسي الحرب العالمية ومذبحة هولودومور ومذبحة سان بارتيليمي، ومذبحة الصينيين على أيادي اليابانيين، وجريمة الكونغو، وجرائم فرنسا في الجزائر، وذكرى المجاعات الكبري والاحتلالات البشعة والإبادات الجماعية. لا يخلو عقد من الزمان الإنساني بلا كارثة مخزية كتلك، مطبوعة على وجه التاريخ خزياً وعاراً. إلا أنه من بين كل الكوارث الإنسانية السابقة واللاحقة، أن يكون الاستهداف للأطفال بهذا الشكل الجمعي، للصحفيين بهذا التركيز الواضح، للمسعفين والأطباء بهذا التحديد المباشر، وبأسحلة متطورة قاتلة حارقة  وممنوعة من المجتمع الدولي بسبب آثارها التي ستلحق البيئة بمجملها دع عنك مضارها غير المسبوقة بالبشر، فهذا ما لم يسبق أن رأته البشرية بهكذا وضوح ومباشرة وجرأة وقحة.

سيحكي التاريخ، سيسرد أن ذات يوم أسود من أكتوبر أعمى من سنة موبوءة بالظلم والتخاذل، قٌتل الأطفال جمعياً، بصوارخ حارقة وفسفور يذيب الأجساد، بتجويع وحصار ومنع للمياه، بإذواء للأجساد وتعذيب للأرواح بمنع الدواء والأطباء والمساعدات، بقتل بطيئ بحصار وعزل ومنع لأدوات الاتصال والتواصل، كل ذلك فيم منظمة “كانت” تسمى الأمم المتحدة تقف عاجزة عن إيقاف البشاعة، فيم مؤسسات “كانت” قائمة للعمل المدني والإنساني تقف خانعة أمام الحكومات التي تمولها، فيم الشعوب تصرخ بإيقاف قتل الأطفال، والحكومات تتحالف من تحت الطاولات، والتجارة تستمر على أشلاء الموتى، والتوابيت تظهر كمنتجات إعلانية تسويقاً لقميص وبنطال. سيحكي التاريخ كيف انتهى كل ذلك، وكان لابد له أن ينتهي بجنسه البشري المجنون الذي تسبب به. فبعد أن هنّأت البشرية بعضها البعض بعامها الجديد واحتلفت على الأجساد والأشلاء، بدأ العد التنازلي، ودقت ساعة بداية النهاية. سيحكي التاريخ لنوع آخر من الكائنات، ستلحق وجودنا على هذه الأرض، قصة نهاية جنسنا بعد أن أصابته الأنانية والبلادة والوقاحة فأكل صغاره وعذب كباره وغسل أرضه بالدماء. سيحكي التاريخ بعد أن نفنى جميعاً في عارنا، وستستمر آلام المسيح وستتدفق دموعه وكل الأنبياء في علياء سماء لا ندري إن كانت موجودة أم لا وهم يستقبلون أرواح الأطفال ويقبلون العزاء في البشرية كلها.

كل عام وأنت بشر، قادرين على إيقاف الاحتفالات حزناً مطلوباً، مستحقاً ومتوقعاً على مجزرة تحدث تحت قبة سمائنا البشرية بلا حسيب أو رقيب.

اترك تعليقاً