تحميل إغلاق

أحزان شجرة الميلاد

أحزان شجرة الميلاد

تتردد أصداء حزن عميق حول العالم تزامناً مع احتفالات كريسماس ورأس السنة هذه الأيام. يشعر كثير من الناس، هؤلاء الذين لهم قلب وعقل وضمير ونسبة ذكاء عاطفي، بصعوبة كبيرة في الاحتفال وإشاعة مظاهر البهجة والسرور مع هذه الأعياد الغربية المسيحية، فيما المدنيون والأبرياء، وتحديداً الأطفال، يتساقطون في غزة والضفة دون أن يتمكن أحد في العالم من إنقاذهم، ربما دون أن ترغب قوى حقيقية فاعلة في العالم من أن تنقذهم.
نستشعر كلنا وحدتنا وقلة حيلتنا في العالم الكبير الصارم البارد، فما بين كون عدمي صلد لا يأبه بوجودنا التافه مطلقاً، وما بين قوى شريرة ظاهرة وخفية تبيع وتشتري البشر على سطح الأرض وتصنع ثروات وإمبراطوريات ضخمة بإشعال الحروب وقتل الأبرياء وتجويع الضعفاء وتشجيع كل آلة عنف وتعذيب وقهر للناس، أين نحن من أي إرادة، وما نمتلك من قدرة حقيقية للدفاع عن وحماية أنفسنا، دع عنك الدفاع عن وحماية الآخرين؟ نحن مجرد رقاقات ثلج هشة، ما بين تكونها في السماء وسقوطها على سطح الأرض لحظات بسيطة، لحظات مليئة بالمعاناة والصراع والشد والجذب، فما نملك نحن لأنفسنا حتى نملك للآخرين؟
حين أفكر في هذا العجز، وحين أستشعر صغر حجمي وقلة حيلتي، ينتابني الخوف بالتأكيد والشعور بالضياع التام، وبصحبة هذه المشاعر نوع من اللامبالاة، من عدم الاهتمام بشيء أو الشعور بقيمة أي شيء. فبما أنها «خربانة خربانة»، فما معنى الاهتمام بأي شيء، الحذر من أي شيء، المشي بجانب الحائط؟ أي حماية تلك التي سيوفرها الحذر أو «المشي الحائطي» وكأنني صرصور لا يستطيع رؤية طريقه إذا كان الحائط أصلاً مملوكاً للقوى العظمى التي تستطيع أن تطيح به في أي لحظة؟ أي معنى يتبقى لنا من حيواتنا المسروقة السخيفة إذا ما غالينا في حماية تفاهتها والخوف على سخفها؟
ما زلنا جميعاً نمارس طقوس حياتنا اليومية العادية، ما زلنا نفرح ونحزن ونغضب ونضحك ونكتب مقالات كالتي أخطها في التو واللحظة، وما زال أطفال غزة يتساقطون، لربما سيرتقي ستة أو سبعة أطفال مع نهاية هذا المقال، فأي معنى لأي شيء نأتيه أو نقوله؟ ولأن المعنى بالعموم غاب عن كل شيء، صرت شخصياً أتمسك بأقل القليل الذي يضفي عمقاً وفحوى، فأقاطع المنتجات بشركاتها بعصابية، وأنشر المعلومات باستمرار وتكرار، أتجنب مظاهر الاحتفال بغضب ناقم على من يقيمونه ويشاركون فيه. أعلم أن «تطرفي» الحالي سيخفت، وأن استمرارية الآخرين في الحياة العادية ليس إثماً، وأن أحكامي على الآخرين مغالية لا حق لي فيها بما أنني لا آتي بأفضل مما استفزها، وكل علومي المتناقضة المتضاربة تلك تضعني في دوامة من التناقضات، والشعور بالنفاق لا ينتهي.
لكن احتفالات كريسماس ورأس السنة؟ لا شك أن الاحتفال هو جانب من جوانب حماية النفس، إقناعها أن كل شيء على ما يرام وطبيعي، وأن الحياة مستمرة. فلربما البهجة، مثلما هو مذكور في «الأوبانيشاد»، أحد أقدم الكتب الهندية والإنسانية الدينية على الإطلاق، هي ما تعطي الحياة معنى، هي «البراهمان» أو أصل الحياة الذي يجعلها قابلة للاستمرار. في كل مرة أشهد فيها مظهراً من مظاهر البهجة؛ عرساً مقاماً، أو احتفالية منصوبة، أو تجمعاً عائلياً أو صداقاتياً بسيطاً نتضاحك فيه ونتبادل الأخبار، يلح عليّ هذا الشعور بالفراغ العقلي والنفسي وبالنفاق الروحي والأخلاقي. كيف نستمر هكذا وكأن شيئاً لم يكن، وهناك أطفال بكل بساطة ومباشرة تضرب بالقنابل وتدفن تحت التراب وتجوّع وتشرّد وتموت على أسرّة المستشفيات خارج حضّاناتها التي كان يفترض أن تعطي لها فرصة حياة؟
في كلماتي هذه تعالٍ أخلاقي ونفاق سلوكي وإحراج مستقبلي قادم، أعرف كل هذا، فلا بد أنني مستمرة في حياتي بنزهاتها وتبضعها وتواصلها الاجتماعي، لا بد أنني أضحك وآكل وأنام بشكل عادي مستمر، ولا بد أن مواقفي الصلبة الحالية ستخفت مع الزمن، وسأنسى وأعيش كأنني ذبابة نسيت من «هشها» بعض ثوان من إصابته لها. فبأي حق أكتب وأندب وأنعى ضياع الأخلاق والمشاعر والمواقف الإنسانية؟
لا حق حقيقياً لي في أي استعلاء أخلاقي، فلست أفضل ولست أكثر صلابة ولست أقوى على مواجهة مغريات و»مريحات» الحياة، لكن اللحظة تحكم، الموقف يدمى، والظروف تقول وتحكي حكاية عمرها 75 سنة من القمع والتعذيب والإقصاء والتهجير والإهانة من خلال أجساد أهل غزة اليوم وعلى طرقاتها ومن فوق أسطح مبانيها المهدمة. أفلا يتوقف العالم كله للحظة؟ أفلا نأخذ هدنة جمعية من متع الحياة التي نستخدمها لنغطي بها تفاهة وعدمية وخواء حيواتنا؟ أفلا نؤجل أفراح هذه السنة، فقط هذه السنة، احتراماً لمجلس عزاء عشرين ألف إنسان قتلوا بدم بارد وبلا ذنب؟ كبير وكثير هذا الطلب؟
ماذا نقول.. كل عام وأنتم بخير! أي خير هذا الذي أنتم فيه؟ كل سنة وأنتم طيبون! أي طيب هذا الذي تستشعرونه؟ ميري كريسماس! أي سعادة تلك التي قد يستشعرها المسيح الآن، طبقاً للمعتقد المسيحي، والنار متقدة في مسقط رأسه، وأطفال مدينته يموتون برعاية أكبر وأقوى الدول المسيحية في العالم؟
عظم الله أجوركم في شهداء غزة، وفي الإنسانية بمجملها.

اترك تعليقاً