تحميل إغلاق

تمثال

تمثال

حين ثار بعض إسلاميي الكويت السياسيين بسبب وجود تمثال لإلهة إغريقية مثولوجية استخدم للزينة في أحد المتاجر في البلد، حيث نجحوا فعلياً في إزالة التمثال وبالتالي ضمان عدم عودة عبادة الأصنام، كتبنا جميعاً نستنكر ونسخر، نستنكر الهدف السخيف ونسخر من الإنجاز الرجعي.

تداول الكويتيون في معظمهم الأمر بفكاهة وسخرية تليقان بالمزاج الكويتي العام الذي دوماً ما يتعامل مع أحلك المواقف بأطرف وأحياناً أسمج المزحات. إلا أن حقيقة الأمر أن الوضع ما كان يستدعي سخرية ولا يليق بالفكاهة وذلك لأسباب لربما تتباعد تماماً والمتوقع منها. الوضع حزين جداً ليس لذات السبب الكليشيهي لاستبداد الخطاب الديني الرجعي في عالمنا العربي وما يصاحبه من تكميم للحريات، ولكن الواقع أن الحزن يكمن في حقيقة أن المعارضات بأنواعها في عالمنا العربي الممتد، والكويت جزء منه، قد اختفت تقريباً بشكل تام، حتى تلك التي كان لها شنة ورنة ذات زمن مثل المعارضات الإسلامية، حيث لم يبق من الصوت الإسلامي السياسي الرنان الذي كان ذات زمن سوى صفير مسكين مضحك، “ونة” اعتراض مزعجة على تمثال هنا أو على دورة رقص هناك. هذا، ويا للحزن، هو كل ما تبقى للتيار الإسلامي السياسي ليستعرض من خلاله عضلاته.

وعلى الرغم من أنني أنتمي لتيار فكري هو على الطرف الآخر من القطب الأيديولوجي، إلا أنني لا أجد في نفسي طاقة لا للشماتة في وقوع التيار الإسلامي ولا للفرح في انهزاماتهم، ذلك أن واقع الحال أن اليسار والتيار الليبرالي لم يكن لهما أي نصيب أفضل إن لم يسبقا في الواقع إلى الهزيمة والانحسار. لقد خسرت كل المعارضات العربية من الخليج إلى المحيط معاركها السلمية لينقلب الربيع العربي إلى شتاء قارص فيما عدا، كنا نعتقد، في تونس التي كانت لا تزال دافئة بعض الشيئ، إلى أن أتى الرئيس قيس سعيد ليجمد أعمال البرلمان مناصباً إسلاميي تونس الذين هم جزء لا يتجزء من مكونها الثقافي عداءاً واضحاً وصريحاً وعنيفاً، وليكتم الصوت المعارض المختلف فيها.

بالعموم، لم يكن لدي الشعوب العربية خطة واضحة، كانت ثورة ربيعية تآكلت بحلول الصيف الحارق ثم الخريف الحزين لتنتهي تماماً بحلول الشتاء القاس المظلم. أما الحكومات العربية، فقد كان لديها خطة، كانت الخطط متقاربة وكان الخطاب متشابه، حتى نبتت في استيعابنا جميعاً كشعوب عربية صبارة شائكة كبيرة اسمها “اختيار أهون الشرور.”

نعم، هكذا توظف الخوف ليلعب في قلوبنا وعقولنا ورؤانا، وهو خوف استخدم بطريقة “عكس عكاس” حيث تم تخويف التيارات اليسارية والليبرالية والتقدمية من استحواذ التيارات الإسلامية على السلطة وبالتالي قيادة المجتمعات العربية كلها في طريق عنيف تخريبي إرهابي الطابع، كما وتم تخويف التيارات الدينية من “فحش” وتحرر وانحلال التيارات المقابلة. ولقد قدمت بعض الأنظمة الإسلامية البراهين التخويفية التي تحتاجها الحكومات على طبق من ذهب: قدم إخوان مصر نموذج فاشل تماماً في الحكم، متطرف تماماً في الفكر، شمولي تماماً في التوجه، وقدم الذراع القاعدي في سوريا نموذج عنيف تماماً لثورة مستحقة ضد الظلم والفساد، وقدم الذراع الشيعي في البحرين نموذج متطرف أحادي التوجه لثورة أخرى مستحقة تماماً، وقدم إسلاميو الكويت، إخوان وسلف، نموذج مخيف جداً للفوضى وللانغلاق ولتراجع الحريات المتنبأ بها جميعاً في حال حاز الإسلاميين على شيئ من القوى السياسية، وكذا فعل إسلاميو اليمن والسودان وغيرهما. ببساطة،

برهنت المعارضات الإسلامية في شتى أنحاء العالم العربي على استعدادها التام للعنف والتسلط وتوجهها غير المقايض لدحر فكرة الحريات الشخصية والحياتية عن بكرة أبيها. هنا، غمزت الأنظمة العربية لشعوبها أن اختاروا: حكوماتكم الحالية أو الأنظمة الإسلامية التي “لابد” وأنها ستحل محلها؟ وبطبيعتنا البشرية تجدنا نتجه لاختيار أهون الشرور، لنبقي على ما نعرف عوضاً عن أن نغامر باستدعاء لا نعرف.

هو قدرنا العربي دوماً أن نختار بين سيئ وأسوأ، فهي لعبة الحكومات العربية أن تثبت كفاءتها ليس من خلال عملها أو إنجازها أو ممارساتها الديموقراطية ولكن من خلال إظهار نواقص ونقاط ضعف البديل لها بل ومضاره المرعبة الخطرة. وهكذا نجد أن الشعب الكويتي يميل بمجمله لمساندة الحكومة مهما تبين من نواقصها وأخطائها باعتبارها المصد عما هو أسوء وأمض: الجماعات الإسلامية المتطرفة، فيم لم يبق لهذه الجماعات الإسلامية السياسية المتطرفة سوى هذه الأهداف الحزينة والخطابات الثمانينية والتسعينية البائدة: هذا التمثال حرام، وهذه الدورة غير إسلامية، وهذا الملبس غير شرعي.

وعلى حين أنه تتم مراضاتهم بين الحين والآخر بانتصارات ضئيلة مسكينة، يبقى الواقع أنها انتصارت “بندول”، تلقمها لهم الحكومة وتتلقمها هي كذلك تفادياً لوجع رأسهم ورأسها، هي شيئ من “رائحة” الانتصارات البائدة التي تذكرهم باللذي مضى والذي لا يمكن في يوم أن يعود. الدنيا ستستمر للأمام، والحريات ستتقدم للمزيد من الانفتاح ولن تُحدث كل جهود هذه الجماعات ولا “بعجة” صغيرة في طريق البشرية المنطلق الصارخي. تلك أصوات من ماض كان، ترددات لصدى انتصارات آخذة في البهات والغياب، لذلك فهي أصوات تبعث كل الحزن والشفقة في القلب، حزن وشفقة على عزيز قوم ذل، وعلى حقيقة أن الطرف الآخر، اليسار والليبراليون وبقية الحركات التقدمية، هو كذلك قوم ذل ولكن بلا حتى عزة سابقة. كلنا في الذل معارضات عربية.

اترك تعليقاً