تحميل إغلاق

“ليس هناك ما يبهج”

“ليس هناك ما يبهج”

“ليس هناك ما يبهج”؛ هو عنوان رواية لأديب كنت أتصوره الأديب الأول في العالم العربي، وفي منطقة الخليج تحديدًا. كانت كتابات هذا الرجل تثير شغفي وخوفي، وتختبر أهم غرائزي الإنسانية من اشتياق ولوعة ورغبة وتأنيب ضمير.

كان هذا الكاتب يكتب عن دنيا مظلمة مرعبة خيالية، إلا أنني كنت أستشعر كم تسخر كتاباته من خلال الخيال من الواقع، الذي هو أقسى وأغرب وأمر، وفجأة وعلى حين غرة، سقط القناع عن كاتبي هذا ومجموعة مهمة من “المثقفين” معه، ومع هذا السقوط المدوي، دخلت أنا في أزمة وجودية، كعادتي مع كل صدمة حياتية، مراجِعة مبادئي وأفكاري ومعنى تعلقي برموز فكرية خذلتني، ونعم بشكل شخصي، عند أول اختبار.

تحول الرجل عند هذا الاختبار، باع القضية والفكرة منتقلًا من موقع المعارض الشرس ذي الحس الاشتراكي اليساري، إلى موالي حليف لطيف خفيف، وأي مكان للطف والخفة في عالمنا العربي الموجوع بأمراضه؟

أتذكر هذا الكاتب الآن رغم أنني ودعته وداعًا لا رجعة فيه مع مجموعة من إيمانياتي وأفكاري لسنوات الآن، أتذكره مع تكرار موجة السقوط المدوي للرموز الفكرية، سقوطها بتخاذلها، سقوطها بموالاتها وتطبيعها، أو سقوطها بصمتها، المهم أننا نمر بمرحلة سقوط متجدد أشعر بها تسحبني إلى داخل عمق مظلم سحيق.

هي طبيعة الاختبارات الإنسانية، أن تتشكل تحت أصعب الظروف وأقساها؛ كاشفة عن المستور ومفصحة عن النوعية ومبينة المعدن الحقيقي للداخلين في هذا الاختبار، بإرادتهم أو دونها. الغريب أنه كثيرًا ما يرسب “المتفوقون” السابقون، يفشلون بصدى رنان يصم آذان محبيهم والمؤمنين السابقين بهم.

واختبار غزة اليوم يذكرني باختبار السلطة والجاه بالأمس الذي مر به كاتبي، الذي “كان” مفضلًا، والذي “كنت” أحترمه، إلا أن الفرق هو أن اختبار اليوم لا ينحصر في الأفكار والمبادئ، لا يتعامل مع صدق النفس وشجاعتها والتزامها بقيمها فقط، اختبار اليوم يستخدم مادة حية ملموسة لتجربة الآخرين، مادة من الصعب جدًا عدم التجاوب معها، ومن الغريب جدًا السقوط عند الاختبار حولها.

اختبار اليوم يقدم أجساد الأطفال في صيغة أسئلة للضمائر، يستخدمهم مادة لقياس المبادئ والمثل والقيم الإنسانية؛ فكم من اسم رنان ورمز طنان سقط في هذا الاختبار الذي لا يفترض أن يرسب فيه أحد!

كم واحد منهم قرر السلامة لنفسه والمصلحة لحياته ولحساب بنكه والفائدة لظروفه عن طريق القرب من مراكز القوى؛ فسلم الأطفال لقنابل العدو الصهيوني دون أن يطرف له جفن!

في هكذا تحولات عنيفة غرابة كبيرة وخطر محيق؛ فالقادر على أن يغير موقفه بين يوم وليلة، هو شخص معدوم الحياء غير مأمون الجانب، يمكنه أن ينقلب على أقرب المقربين إليه بين ليلة وضحاها.

الأكثر رعبًا هو أن يكون هذا الشخص رمزًا وطنيًا قوميًا وقيمة مبدئية، وحامل لواء مُثل سابق، ثم ينقلب على كل ما شكل شخصيته وكون فكره، ليبدو بين لحظة وتاليتها عاريًا، مكشوف العورة الفكرية، بلا أي تعريف، بلا أية ملامح مفاهيمية، بلا أي مبدأ يستره أو قيمة تصرف له قيمة.

كيف يستطيع البعض التضحية بسمعة قضوا حياتهم يصنعونها هكذا بين ليلة وضحاها؟ ومن أجل أبخس الأثمان، من أجل متع عينية لن يستطيعوا دفنها معهم في قبورهم؟

تغيير المواقف ومراجعة الأفكار هي سمة بشرية، مردها إلى نقص كمالنا ككائنات تخطئ أكثر مما تصيب، كائنات محدودة الاستقبال، محشورة في مغلفات من لحم وشحم ودم تعزلها عن العالم الواقعي وعن بقية البشر فيه.

كل منا محبوس في عقله، مسجون في مساحة الرؤية أمام عينيه، مربوط بالموجات الصوتية القادرة أذنه على التقاطها، كلنا معزولون عن العالم حولنا  بقدر ما نحن متصلون به من خلال حواسنا.

لذا، لابد لنا أن نفهم التغير والتغيير؛ فعلى كل حال، كلنا نمر بهما ونمارسهما، لكن أن يتغير موقفك تأييدًا لطرف يقتل الأطفال ويشرد المدنيين، ويدك مدينة كاملة على رؤوس أهلها المسالمين؛ فهذا ما لا يخرج عن نطاق المعقول والمقبول والمنطقي والإنساني فقط، ولكن الغرائزي البحت كذلك.

لاشك أن لأغلبية شعوب العالم موقفًا مشرفًا تجاه غزة؛ بل والقضية الفلسطينية برمتها اليوم، لربما تضحيات غزة الموجعة فوق الوصف الآن ستوصف لاحقًا على أنها هي التي بدأت حراك التحرر من هذا الاستيطان التآمري الرخيص، حراك ستتكلم عنه أجيال لاحقة، على أن انطلاقته كانت في 7 من أكتوبر 2023.

لربما تلك هي بداية نهاية الظلم، ونهاية بداية الاستعمار، وهو الأمل الذي يتعلق به شرفاء البشرية، أمل رائع وأناني في ذات الوقت، مرد أنانيته لرغبة هؤلاء البشر في تفادي تحمل مسؤولية كل هذه الدماء الطفولية على ضمائرهم، تفادي الشعور بأن هذا القتل والموت والدمار كان بلا مقابل حقيقي، تفادي الشعور بفداحة الجريمة التي لم يقاوموها سوى بالاعتراض الذي هو أضعف الإيمان. نحتاج كلنا لشيء من الأمل يبرر لنا ضعفنا وتخاذلنا، ويمكننا من الاستمرار في الحياة.

ورغم بزوغ هذا الفصل الجديد الإيجابي من فصول قصة تحرير فلسطين، إلا أن تخاذل الأقلية موجع؛ خصوصًا حين يكونون من الأقربين الأولى بالمساندة والمساعدة والتواصل العاطفي. صعب جدًا أن يموت الأطفال تحت الركام حرقًا وتقطيعًا وتناثرًا للأشلاء، وهناك تخاذل من أي بشر كان، دع عنك من مساندي الأمس وسند الماضي وعزوة الأيام التي كانت.

وعلى الرغم من أن لكل قضية وجهات نظر، ولكل مشهد زواياه التي لا يراها الجميع، إلا أن مشهد غزة الدامي يسد عين الشمس، بارز الزوايا من كل الزوايا، لا يحتمل النقاش، ليس له منظورات مختلفة، لا يستوعب تبريرًا أو تفسيرًا أو “لكن” البذيئة التي تتردد على ألسنة أصحاب الأمس، منافقي اليوم.

سقطت الكثير من الرموز الكبيرة، ولكن ليس هم فقط، لقد سقط كذلك أصدقاء وأقرباء وأحباء، كنا نؤمن بإنسانيتهم، ونعتقد بثبات مواقفهم ونستند على قوة قيمهم، ليتحرروا من كل ذلك غير متوانين عن استعراض متع الحياة ومباهجها على وسائل تواصلهم، دون أن يذكروا المأساة بكلمة.

دون أن يستحيوا باستعراض الفرح والمتعة، ونحن في منتصف عزاء جمعي كبير، عزاء عشرين ألف إنسان، لم تجف دماؤهم بعد، لم تتجمع أشلاؤهم بعد، لم يُنتشلوا من تحت الأنقاض بعد، لم تُعد جثثهم إلى أهاليهم من عند الكيان الصهيوني بعد. ليس هذا موتًا معتادًا، ليس غيابًا معتادًا وليس مأتما معتادًا؛ بل تلك كارثة بشرية حارقة على كل المقاييس؛ فأين تواصلكم الإنساني الطبيعي الغرائزي؟

 

اترك تعليقاً