تحميل إغلاق

هذه الدمى هي نحن

هذه الدمى هي نحن

في مأساة غزة ثقافة واسعة، ويا للحسرة على بشر لا يتعلمون سوى بعد وقوع الوقائع واستقرار المآسي! لقد كشفت الجريمة الصهيونية عن رأس جبل الجليد المتوحش الذي طالما غطته أمواج إبهار الحياة وانشغالنا بتشعباتها وتعقيداتها وتراكم طبقات صانعيها حتى اختفى الجبل المتوحش بأكمله وضاعت قدرتنا على تمييز طبقات الموج التي تستر عليه.
ولربما الجانب السياسي من الجبل كان دوماً قابلا للتمييز لمن يبحث ويتقصى بعض الشيء. فالتحالفات السياسية العالمية واضحة، والمؤامرات الدولية الخفية ليست عصية على الاكتشاف. صحيح أن بعض العلاقات السياسية بالغة التعقيد، إلا أن الشكوك التي تحوم حول حكومات العالم وعلاقاتها المصلحية المريبة بأذرعها الخفية الممتدة تحت طاولات الاتفاقات الشريرة قد يسرت على العامة تصديق ما قد يتكشف من خبايا مصائبية ومن مواقف لا يمكن تبريرها سوى بالفساد السياسي البين. لا أعتقد أن هناك بشرا اليوم على سطح الأرض يؤمن بالصلاح الحكومي أو بالنظافة السياسية. ورغم ذلك، رغم هذا الاعتقاد الراسخ بالفساد السياسي وبحقيقية المؤامرات المصلحية الكبرى، أصيبت الشعوب الأوروبية بصدمة كبرى من المواقف المتخاذلة لحكوماتهم «الإنسانية» التي وقفت مكتوفة الأيادي والأطفال في غزة يواجهون واحدا من أبشع جيوش العالم وأكثرها عنفاً وأقلها أخلاقية، إن كان للأخلاقية وجود في المساحة العسكرية الحربية.
أما الجانب الاجتماعي وأكثر منه الاقتصادي من هذا الجبل، فهذا ما كان مغطى بطبقات موج تركتنا نعوم فوق هذا الجبل الضخم دون أدنى فكرة حول العفن المستقر أسفله. الآن وقد وصلنا لثقافة اقتصادية أعمق بعض الشيء بفضل تضحيات غزة الرهيبة التي أوصلتنا لمقاطعة فاضلة فاعلة، الآن تكشفت عمق المؤامرة الاقتصادية ومدى تشابك خيوطها المريبة. أن تمتلك شركة تجميل منفردة، على سبيل المثال، مئات الشركات الصغيرة أسفلها، وأن تَكون هذه الشركة العملاقة من كبار المؤسسات الاقتصادية المساندة للصهاينة، كل هذا يكشف عن سلسلة اقتصادية سياسية متشابكة الخيوط تلتئم في نهاياتها بدمى تحركها وتستفيد منها كما ومتى تشاء، هذه الدمى هي نحن.
لفترة طويلة بعد بدء حراك المقاطعة، كنت أشعر أن يدي ملطختان بالدم، أن حلقي مُمَرَّر بطعمه، وجسدي ملون به بعد أن اكتشفت كيف أن كبرى شركات العالم: أزياء، تجميل، مجوهرات، سيارات، أغذية، مطاعم، مقاه، طيران، فنادق، إلى غيرها من الخدمات اللامتناهية، كل هذه الشركات المعروفة، ذات الأسماء الطنانة المخيفة المناطة بالطبقات المخملية، أو ذات الأسماء المعتادة المتداولة بين الطبقات المتوسطة، أو حتى ذات الأسماء غير المعروفة التي قليلاً ما يتم تداولها، كلها لها يد تمدها للكيان الصهيوني أو تمتد منه في الواقع. كل هذا الإبداع في الصنع والفخامة في الإنتاج والجاذبية في العرض والبيع، كل هذا التشويق البضائعي الذي كان يبدو بريئاً على الأقل من الفساد السياسي تبدى أنه في عمق جرائم الحرب العالمية، أنه هو ما يمول الجيوش ويقتل الأطفال ويقيم المجازر ويصنع الإبادات، كل هذا الجمال المعروض في نافذات المحلات الكبرى الفخمة في واقعه مغمس بالدماء والأشلاء. أي تغييب كنا نعيش؟
بالطبع لم يكن التغييب كاملاً. فعلى سبيل المثال، معلومة انغماس حجر الألماس في دم العاملين على استخراجه هي معلومة منتشرة بشكل معقول، كما أن الحقيقة البشعة لمصانع عمالة الأطفال والنساء والمحتاجين وبأجور لا تقترب حتى من الحدود الدنيا للكثير من الشركات «مخملية» البضائع، هي كذلك حقيقة معروفة ومنتشرة لا يمكن دحضها. كذلك، هناك شركات صهيونية الهوى مكشوفة قبل حراك المقاطعة العظيم، وهي شركات لطالما نبه بها العاملون في القضية، وخصوصاً حركة مقاطعة المنتجات الصهيونية BDS ذات الأفرع المتعددة حول العالم. ولقد حاولت، كما غيري الكثيرين، مقاطعة الكثير من البضائع المريبة مثل كل منتجات الألماس وشركات الحقائب الكبرى ومحلات الملابس المعروفة بعمالتها للأطفال، معتقدة أن موقفي هذا لربما يكون كافيا أخلاقياً، إلا أن كل هذه المواقف المتواضعة ما كانت سوى ضمادة منمنة على شق كبير عميق منقوش على جسد الكيان الاقتصادي العالمي.
لم أكن أعرف كل هذه المعلومات، وماذا تمتلك امرأة يفترض أنها ناشطة حقوقياً في عمري وموقعي الأكاديمي من تبرير لهكذا جهل بهكذا جبل ضخم مهما غطته أمواج التشويش والإبهار؟ أي حجة أمتلك أمام ضميري وأمام أبنائي وطلبتي لاسترسالي الاستهلاكي دون عمل الواجب البسيط الهين الذي كان ليوضح الكثير وينظف الكثير في حياتي؟ يجب أن تكون الغضبة المشتعلة غضبتين، الأولى للجريمة البشعة القائمة ولا تزال في غزة على يد الصهاينة دون تدخل يذكر من حكومات العالم الفاسدة، والثانية لخطة تجهيلنا المتعمدة والمحكمة طويلة الأمد من ذات الحكومات والتي، أي هذه الخطة، رغم إِحكامها، لا مبرر لنا بالجهل بها ولا غافر لنا انطلاؤها علينا.
لست مقاطعة، أنا مستغنية ومستغنية بدرجة عصابية في بحثي عن المصدر وتقصي حقيقته، مستغنية استغناء والدي الذي بدا أنه مقاطع اليوم لكافة شركات وبضائع الدول المؤيدة للكيان بلا استثناء وبلا حتى بحث عن درجة تورطهم. لعنهم الله ببضائعهم إلى آخر يوم من أيام هذا الكون. لن أسامح نفسي على جهلي السابق، وعدم المغفرة تلك هي أقل عقوبة أستحقها..

اترك تعليقاً