تحميل إغلاق

صورة

صورة

لطالما كان الإنسان مهووساً بالصورة، باحتجاز ذكرياته في لحظة من الزمن في لقطة تبقي الماضي حاضراً، في خطوط ضوئية مطبوعة تستجدي اللحظة في جمالها أو في وعودها وأحياناً في ألمها. من المثير أن نعرف أن هوس الإنسان بدأ بالصورة المتحركة حتى قبل الصورة الصامتة، ففي رسومات لبشر سابقين والتي وجدناها في أقدم كهوف العالم مثل كهوف Lascaux و Chauvet، تبرز هذه الرسومات للحيوانات المختلفة حركتها، جريها ولربما صراعها أكثر منها إبرازاً لشكلها فقط. وهكذا استمر هوس الإنسان بتسجيل تاريخه، بتثبيت مروره على الأرض بطرق مختلفة حتى أتت اللحظة الحاسمة في 1839 عندما أعلنت الحكومة الفرنسية الاختراع الذي سيقلب مسار تاريخ البشرية.
يحضرني التاريخ البشري الطويل والمبهر مع الصورة الصامتة ومن بعدها المتحركة ونحن نعيش اليوم هذا الطوفان من الصور وتسجيلات الفيديو التي تحمل معها كمية من المعلومات ما كانت لتتوافر لإنسان القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ولو عاش عشر مرات فوق عمره. من الملفت كذلك اننا لم نعد نطبع الصور لنحتفظ بها في البومات، القليل منا لا يزال يحتفظ بصورة محبوب له في محفظته، تحولت حياتنا بالكامل إلى صيغة إلكترونية، أفقدت في رأيي، كل معنى للتوثيق المجنون لحيواتنا عبر مليارات الصور التي نلتقطها يومياً. فكيف بدأ هذا الجنون التصويري؟
البداية كانت مع جوزيف نيبتشة، المخترع الفرنسي الذي تمكن من التقاط صورة غاية في التشويش في 1826، إلا أنه احتاج لأن يعرض لوحه القصديري لأشعة الشمس لمدة ثماني ساعات ليستطيع تسجيل الصورة. بعدها تمكن لويس داجور في 1839 من التقاط صورة لشارع فرنسي بعد تعريض لوحه المطور لأشعة الشمس لمدة عشرين دقيقة فقط. تظهر الصورة شارعا هادئا، خاليا، في حين أن الشارع كان يصطخب بالمارة الذين لم يظهر منهم أحد على الصورة لأن ظهورهم كان يتطلب وقوفهم ثابتين لمدة عشرين دقيقة. الشخصان الوحيدان الذين ظهرا هما ماسح أحذية وزبون له، والتي ثبتتهما هذه الخدمة لمدة عشرين دقيقة في مكانهما ليصبحا وبمحض الصدفة أول بشرين يظهران في صورة.
كان أول ولع للإنسان بالصورة هو ولع شخصي، فانتشرت الصور الشخصية بشكل موسع وأصبحت تقدم للآخرين على أنها بطاقة شخصية لحاملها، يعرف بها عن نفسه من خلالها. إن هوس الإنسان «النرجسي» برسمه تمتد آثاره إلى اليوم بالولع الحالي القائم حول «السيلفي» أو الصورة التي يأخذها الشخص لنفسه. الا أن هذا الولع كان له أكبر التأثير على التاريخ البشري، حتى أنه يقال إن أحد أهم أسباب نجاح إبراهام لينكولن في انتخابات الرئاسة كانت تلك الصورة التي التقطها له «بريدي»، أحد أهم مصوري عصره، والتي تسببت في نشر فكرة رائعة عن لينكولن الشاب ودفعت به إلى النجاح.
وما كانت المرأة لتترك المجال للرجل وحده، فقد كانت إحدى أهم مصورات القرن التاسع عشر هي جوليا مارغريت كاميرون التي كانت معروفة بدائرتها المتسعة جداً من المعارف والأصدقاء المهمين الذين استغلتهم لالتقاط صورها الرائعة عاكسة وبشكل عبقري شخصياتهم من خلال هذه الصور. بدأت كاميرون هوايتها هذه في الثامنة والأربعين من عمرها عندما أهدتها ابنتها تصاوير عدة في عيد ميلادها، ومن وقتها انطلقت كاميرون في التقاط الصور البارعة دون أن تدعي في يوم حرفيتها ودون أن تبيع شيئا من صورها وذلك حتى نهاية حياتها عندما أقامت معرضا واحدا وأخيرا لبيع بعض صورها. كانت كاميرون تضع الأشخاص مواضيع صورها في ظروف قاسية ولمدد طويلة، فتجبرهم على اتخاذ مواضع غاية في الصعوبة وتعيد وتزيد من التقاطها الصورة ذاتها حتى تضبطها بالدرجة التي ترضيها، فما تترك «الموديل» إلا وهو أو هي غاية في التعب بعد جلسة التصوير تلك. من بين أهم من صورتهم كاميرون هو تشارلز داروين، الشاعر الانكليزي لورد تينيسون والآخر الأمريكي لونغفيلو.
إلا أن هيجان التصوير الذي أصابنا اليوم بدأ مع المصور الأمريكي جورج ايستمان الذي طور كاميرا كوداك التي غيرت وجه التصوير تماماً. أصبح التصوير من بعد هذه الكاميرا هواية سهلة تصل لأيدي الجميع، كل ماعليك هو أن تحمل الكاميرا «الخفيفة» معك، وتلتقط الصور التي تريد، ثم تعيد إرسال الكاميرا للشركة. تقوم الشركة بتحميض الصور ثم ترسلها لك مع كاميرتك معبأة بفيلم جديد. وهكذا بدأ عصر تصويري جديد وصل بنا إلى هوس اليوم في تسجيل كل لحظة من حياتنا بشكل مرئي.
اللافت للنظر إنه وفي ذات زمان حين كانت الصورة هي الدليل الأقوى على الحقيقة، أصبحت اليوم دليلا مشكوكا به مع كل تكنولوجيا العبث بالصور. لم تعد حتى أكثر وسائل بث الحقائق مضمونة في عصرنا. لقد انقلبت موازين الحقائق ومقاييسها اليوم، ولم تعد الصورة «بألف كلمة»، بل أصبحت مثلها مثل الكلمات الكاذبة التي يمكن تحويرها وتزويرها. ترى، كيف سينتهي هذا الهوس بالصورة؟ أو إلى أين سيقود؟ وما هي المحطة البشرية التوثيقية التالية؟ كيف سيصنعها الإنسان ثم كيف سيحطم أهليتها؟ وهل سنصل في يوم إلى تقنية تحفظ الحقيقة؟
المعلومات مستقاة من كتاب Living With Art للكاتبMark Getlein .

اترك تعليقاً