مشاعر مرهفة
مع قدوم كل رمضان، شهر الصيام عن المعاصي، شهر التواصل النفسي مع الفقراء، شهر التعبد والزهد وحسن التعامل وإعلاء مكارم الأخلاق، تتوالى المشكلات ذاتها التي ربما تعكس مشكلة نفسية وفكرية للطريقة التي يتعامل بها المسلمون مع المفاهيم الدينية.
تتجلى المشكلة في منحيين، الأول في التحايل والثاني في التناقض اللذين يتعامل بهما نسبة جيدة من المسلمين العرب تحديداً مع الفكرة التعبدية والفلسفية للدين. ففي كل رمضان، يسارع المسلمون في الدول العربية الى تغيير طبائعهم اليومية ليقللوا ما استطاعوا من الشعور بالصيام، فنجد أن غالبية «مقتدرة» جيدة تنام نهارها تفويتاً للشعور بمعاناة الصيام وتصحو ليلها استمتاعاً بالفترات المسموح بها بالأكل والشرب، فتنقلب أيام الناس حتى يصبح وقت يقظتهم معظمه مصروفاً في ساعات الإفطار ووقت منامهم معظمه مصروفاً في ساعات الصيام، ولا يبدو واضحاً كيف يقرب ذلك الإنسان الصائم من الشعور بالفقير أو يعطيه استحقاق الثواب وهو يتحايل على يومه ليتفادى صيامه.
وفي هذا الشهر الفضيل، لا تنفجر فقط أعصاب الناس وتضيق نفوسهم بالمصاعب اليومية العادية للحياة، ولكن تنفجر بطونهم كذلك بالأطعمة وتضيق جيوبهم بالمبالغ التي يصرفونها على تكويم وإعداد كميات هائلة من الأطعمة لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بمفهوم الورع والزهد الذين يفترض مصاحبتهما لأيام شهر التقوى هذه. تمتلئ الموائد بأطعمة تأكلها العيون وتعجز عن احتوائها البطون، يترنح الناس ثقلاً بما يتناولونه من أطعمة ويخمرون كسلاً بما يتلذذون به من حلوى وسكريات، في تناقض غريب مع الفكرة من شهر الصيام، شهر إراحة المعدة والوقوف على مسافة من ملذات الحياة. ولأن كل ممنوع مرغوب، يصبح للطعام لذة فارقة في هذا الشهر، ويصبح لتنوع الأطباق حاجة ملحة، ويصبح لدعوات الإفطار عبئاً مزمناً يتكبده جيب الأسرة وطاقة ووقت المرأة، حتى تتحول أيام الشهر لسباق سريع في المطابخ والأسواق، استعداداً ليس فقط لمراسم الإفطار ولكن كذلك لفترة العيد التي تكاليفها ومراسمها هي قصة أخرى مذهلة بحد ذاتها.
الا أن كل ذلك تجبه رهافة مشاعر المسلمين في هذا الشهر، حيث ينتابهم الحنق وتغلي الدماء في عروقهم عندما يرون غيرهم من فاطري رمضان يأكلون ويشربون علناً، علماً بأن هذا الحنق وذاك الغليان لا يحدثان سوى في الدول العربية الإسلامية، أما في الدول الغربية، فيصوم المسلمون برضا، تجاوراً مع المطاعم المفتوحة والخمارات المشرعة. كل سنة يدور الحوار ذاته حول تجريم المجاهرة بالإفطار ومدى فعالية وعدالة مثل هذه القوانين في دولنا الإسلامية، دون أن يكون هناك تقييم حقيقي للمعنى العميق لقسر الناس على إظهار غير ما يبطون أو على تمثيل غير ما يعيشون. لماذا تستثار مشاعر المسلمين اذا ما جاهر آخرون بعدم صيامهم؟
هل يعتقد المسلمون بضرورة أن يمثل كل من حولهم حالة الامتناع عن الأكل والشرب حتى يستتب الاحترام لهذا الفرض الإسلامي؟
ما هو الضرر الحقيقي من أن يفطر آخرون في رمضان وأن يعلنوا إفطارهم؟ هل يستحق المسلم الذي تحصنه دولته ضد مظاهر الإغراء «الطعامية» نهار صيامه حسنات هذا الصيام؟
لماذا لا تجرح إعلانات الأكل والشرب الملحة في قنواتنا التلفزيونية مشاعر الصائمين في حين أن تناول عامل في الشارع جرعة ماء باردة تجرح مشاعرهم؟
ما الذي يجعل مشاعر المسلمين ذات أهمية قصوى وفي حاجة مستمرة للرعاية والحماية؟ وفي دولنا الخليجية تحديداً التي تتكون في معظمها من جاليات غير عربية وغير مسلمة، كيف تُبرَر القوانين التي تقمع كل هذه الأغلبية المسكينة لصالح الأقلية المرفهة التي تنام ساعات صيامها وتُتخَم ساعات فطورها؟
تقاوم اليوم معظم الأديان المنطق القسري القديم لتنفيذ عباداتها ولاستتباب مظاهرها الورعية، خصوصاً بعد تطور المفاهيم الحديثة للحريات الشخصية والتي يجب أن تعلو ما عداها من المعتقدات مهما بلغت قداسة الأخيرة. ومع استتباب مفاهيم الحريات هذه، قلت مظاهر النفاق والمبالغات وإن لم تقل مظاهر التبذير التي تصاحب معظم المناسبات الدينية. في دولنا العربية الإسلامية لا يزال هذا الشعور بالمسؤولية الجمعية عن تنفيذ العبادات وبالغضب والإهانة الدينية في حال تخلف آخرون عن تنفيذها يقف عائقاً أمام طبيعية الحياة وصدق وحقيقية الأداء الديني، صانعاً بشراً يحكمون على ويحاكمون الناس وآخرين يمثلون على ويمتثلون للسائد من آراء الناس، رافعاً المسؤولية الحقيقية عن عاتق المسلم الى عاتق الدولة التي يجب عليها أن تضمن التزام الجميع بالأداء الديني حتى لا يزل أو يضطرب أو يُجرح المتعبد. ولا زال الفهم غائباً، ما الذي يجرح مسلم صائم في رؤية آخر غير صائم، وما الذي يجب أن يجرحه حقيقة، اختيار الآخرين لأداء العبادة من عدمه أم نفاق أدائها التمثيلي؟
لا أعتقد أن هناك قانوناً يذكر بالعصور الديكتاتورية القديمة ويدفع بالناس دفعاً للنفاق الديني كما قوانين معاقبة المجاهرة بالإفطار، وهكذا نهتم نحن بالمظهر لا الجوهر ونمعن في خلق مسلمين منافقين كل يوم، يشتمون الغرب الكافر ويتطلعون لأول فرصة للهروب إليه استنشاقاً لحرياتهم. الى أن نصبح نحن حقيقيين، سيبقى كل شيء في حياتنا زائفاً.