تحميل إغلاق

أنهار

أنهار

الحرب عنف بشع، والاحتلال جريمة يدفع ثمنها الأعلى عادة النساء، وهو ثمن حارق وأحياناً خفي لا يستشعره العامة الذين يكونون مبهورين بأضواء الموت، بصور القنابل التي تقع على المدن وعمليات تبادل إطلاق النار وببقية مشاهد الحرب «البراقة» التي ما إن تهدأ، كما تقول إيف آنسر، حتى يختفي الإعلام ويخفت اهتمام الناس وتنسى بقية الدنيا أن الحرب الحقيقية للّحظة والتو ستبدأ، وأن من سيخوضها حقيقة هن النساء.
تخوض النساء أصعب وأخطر الساحات الحربية على الإطلاق، سواء إبان الحرب أو بعد وقف إطلاق النار. بعد التوقف المؤقت أو الكلي للحرب، يقع على عاتق النساء مهمة «إعادة الإعمار» النفسي والمجتمعي والتعليمي وحتى الاقتصادي، تجدهن هن من يسعين في تنظيف الأماكن، تطبيب الجرحى، إعادة فتح المدارس، وضع الوجبات أمام الجوعى، تأمين الأطفال والتخفيف من صدماتهم النفسية، وفوق كل ذلك، العمل على تأمين الأسر مادياً حين يأتي الرجال محملين في أكفان، أو حتى وإن أتوا سائرين على أقدام بالكاد تحملهم، حين يتأرجحون حاملين نفوساً كسيرة مريضة مما شاهدوا في الحروب، نفوساً تنعكس عادة بكل أمراضها وسلبياتها على النساء حولها، النساء اللواتي يتحملن ليس فقط بشاعة الحرب ولكن كذلك بشاعة مخلفاتها في نفوس رجالهن.
هذا ما تفعله النساء في الخفاء، حين يغادر الإعلام ويضمحل الاهتمام ويتناسى العالم المكان المنكوب. إلا أن النساء أنفسهن يقفن في الصفوف الأولى كذلك، يحملن السلاح ويدافعن ويؤسرن ويقتلن، ويبقى الثمن الذي تدفعه هؤلاء المناضلات أعلى بكثير من الرجال حتى على الصفوف الأولى. تدفع النساء في الحروب ثمناً أعلى حتى من الحياة، تدفع النساء الثمن من أجسادهن وأرواحهن، فكثير من الحروب تخاض اغتصاباً وعنفاً وإهانة لأجساد النساء، وذلك كسراً للمجتمع ككل أو تغييراً في نسيجه، خصوصاً من خلال عمليات الاغتصاب التي يراد بها غرز العدو في أرحام النساء وإقحامه قسراً في المجتمع لتغيير تركيبته. أجساد النساء ساحات حرب دائماً، في أوقات الحروب وفي أوقات السلام.
اليوم يشن العدو الصهيوني حرباً جديدة نذلة من خلال احتجاز أنهار الديك، الأسيرة الفلسطينية، في سجونه، وتكبيل جسدها وهي في شهرها التاسع وعلى وشك أن تلد بعملية قيصرية. لم يمر على البشرية احتلال شهم، فالاحتلال بمفهومه هو عملية اغتصاب، سرقة أرض وعرض وتاريخ، فهل يمكن لمنظومة فاسدة قائمة على قواعد عطنة أن تتعامل بشرف مع ضحاياها؟ لكنني أتصور أنه لم يمر على البشرية كذلك احتلال كالصهيوني من حيث كل اختلالاته وتناقضاته قبل حتى عنفه وطغيانه وتحالفاته المريضة: احتلال يدعي الليبرالية والمدنية وقائم على فكرة دينية تراثية، احتلال يذكر بمصاب بشع حاق بأبناء جلدته إبان الحروب النازية ثم يمارسها ذاتها على ضحايا احتلاله، احتلال يبنى مدناً حديثة وينصب المؤسسات والمحاكم، ثم يلتف، مثل «حرامية المواسير»، ليتسلق على بيوت الناس فيسرقها والأراضي والمزارع، فيغتصبها ليشرد شعباً بأكمله ويقتل من تبقى منه أطفالاً قبل الكبار بدم بارد وعلى مرأى من العالم أجمع.
لا بد أن يتحرك العالم بأكمله من أجل أنهار، أنهار التي لخص شخصها كل التضحيات، وأظهر وضعها كل البشاعات التي يمارسها الاحتلال. أنهار المرأة الحامل المناضلة الأسيرة، مكبلة إلى سريرها، ستلد طفلها قيصرياً على أرضية السجن، دون قريب أو حبيب يأخذ بيدها، ليرى طفلها النور ولأول مرة بعيداً باهتاً يمر خيوطاً من بين القضبان القبيحة. هذه جريمة لا يتعداها سوى السكوت عنها. إذا ولدت أنهار مكبلة في السجن، فهذه هزيمة للسلام، للحق، للمبادئ الإنسانية، للنزاهة البشرية، وللعالم أجمع الذي يَرسُب ولايزال في امتحان القضية الفلسطينية، القضية الإنسانية الأولى في العالم.

اترك تعليقاً