متى ينهد حيلنا؟
الحدود الجغرافية وكل ما يترتب عليها من شؤون داخلية وخصوصيات سياسية هي في الواقع وهمية، فالحدود الجغرافية هي خطوط نرسمها نحن على الورق، تتغير بتغير الزمان والإنسان والأفكار. الأرض ملك لنفسها، ونحن مخلوقات وقتية، تأتي وتذهب، وفي ذهابها تخسر كل شيء ولا يبقى لها سوى “ستة أقدام” من الأرض هي كل ما سنحتاج منها كما يقول العظيم ليو تولستوي في قصته القصيرة “كم من الأرض يحتاج الرجل؟” ولكننا نحن البشر، رغم وقتيتنا، نشكل سلسلة مترابطة، الأحياء منا بالأموات، والأموات منا بالموتى الذين قبلهم. سلسلة شعرية موجعة نحن كما سلسلة “الرنجا” اليابانية المكونة من قصائد “التانكا” القصيرة، كل منها ومضة سريعة، تحكي مشهداً قصيراً سريعاً، لحظة حياة، ثم تختفي خلف تانكا أخرى، في سلسلة طويلة رائعة يعظم معناها بترابط أجزائها.
لذلك، الطبيعي هو أن تخرج نساء الكويت في مسيرة من أجل نساء السعودية، الطبيعي هو أن يخرج الأوروبيون في اعتصامات من أجل اللاجئين المعذبين، الطبيعي هو أن يخرج الأميركيون في تنديدات لإجراءات ترامب العنصرية، الطبيعي هو أن يحتج الفرنسيون والبريطانيون أمام السفارات في بلدانهم على الموقف الروسي البشع في سورية، هذا التواصل الإنساني، هذه اليد الضئيلة الفانية الضعيفة الممدودة، على قلة حيلتها، هي المتوقعة، هي الطبيعية، وهي، وإن كانت وحدها، يمكنها أن تصفق، يمكنها أن تحدث دوياً وتجذب إليها أيادي أخرى، وتحدث فرقاً.
غير الطبيعي هو أن تتحجر أمام غيرك من البشر بسبب خط مرسوم على ورقة خريطة، بسبب بعد جغرافي لا يغير شيئا من تشابهنا الأساسي البيولوجي، غير الطبيعي هو أن تطفئ جهازك فتوهم نفسك بأنك نفضت المشكلة، تغلق عينيك فتعتقد، كما الأطفال حين يضعون أياديهم على عيونهم، بانفضاض أصحابها. غير الطبيعي هو أن يموت الصغار، تصطف أجسادهم في صف مستقيم لا تبعثره تحركاتهم الشقية، بأعينهم نصف المفتوحة، بأفواههم نصف الشاهقة، بشعورهم المبعثرة، وبسكونهم، سكونهم المرعب الرابض على ضمائرنا إلى الأبد، ولا يكون لنا ردة فعل، لا تكون لنا غضبة عارمة. لكن الأكثر مرضية هو أن يكون لنا رد فعل سياسي، أن نضع صورة لصغار تصطف أجسادهم في طابور الموت في تغريدة، ثم تتحلق تحتها تعليقات طائفية مخزية حول هوية المذنب، حول الأسباب والدوافع والخطط، وكأن أياً منها، وإن صدق، مُهِمٌ، وكأن أياً منها، وإن تحقق، سيحدث فرقاً أو يحيي طفلاً أو يمسح عاراً نلبسه كل يوم تاجاً على رؤوسنا بلا خجل.
لو مات عدد من الأطفال بسبب حادث قدري في أحد الدول الأوروبية مثلاً لقامت الدنيا وما قعدت، ولبقيت البشرية تحتفي بذكراهم طوال عمرها القصير المنكوب، أما عندنا يموت الأطفال في حوادث قذرة مدبرة بليل، ولا يصحو عندنا ضمير ولا يستريح عندنا نفس طائفي، مستمرون نحن كأننا مسبوغون بلعنة، كأننا منحوسون مسحورون، لا تهد حيلنا رائحة الموت ولا تكسر شوكتنا أجساد الأطفال المصفوفة، لا يلجمنا شيء، لا يلجمنا شيء.
الغاز الذي خنق أطفال خان شيخون خطة من النظام السوري، لا ليس خطة من النظام السوري، هل من فرق؟ هل تخفف الإجابة عن هذا السؤال من مسؤولية النظام؟ ألا يعتبر قصر يديه أصلاً جريمة في حق بلده؟ وفي حين يجمع الإعلام العالمي والمنظمات الإنسانية على تورط النظام فعلياً، لا يزال النقاش عندنا قائماً، نقاش سيريالي غريب لا يرتقي موضوعه لحجم الفاجعة، وهل يمكن أن يرتقي أي حديث لحجمها؟ هل يمكن لأي كلمات أن تخفف أو تبرر أو تمنطق اصطفاف الأجساد الصغيرة المختنقة؟
كل شيء في بقعتنا الأرضية هذه غريب، سيريالي، غير مفهوم. حتى الموت، القصة المؤلمة الوحيدة التي يتفق عليها كل البشر، نختلف نحن حولها، نحولها لموضوع سياسي، نتجاهل فظاعتها، نلتف حول حقيقة أنها الفناء، أنها النهاية، حتى تبدو لنا بكل كآبتها وترويعها سريعة واعتيادية وغير كارثية. أصبح الموت صوراً على “تويتر” وتعليقات سياسية وتنظيرات مؤامراتية، خلا الموت من فظاعته، وخلت قلوبنا من فطرة التعاطف الإنساني، ومن أين لنا وقت لها ونحن مشغولون نقرر أشيعية هذه الجريمة أم سنية؟
أطفال خان شيخون ليسوا أول باقة ولن يكونوا الأخيرة، المهم نبرر للنظام، المهم نخلي ساحة الإرهابيين، المهم “جماعتنا” يطلعون براءة، بعد ذلك، كل دماء ترخص وكل روح تهون.