تحميل إغلاق

عندما تهبط المطارق

عندما تهبط المطارق

لفترة طويلة آثرت شخصياً الصمت، فهو أحياناً أقوى سلاح تدافع به عن مبدئك، وأبلغ احتجاج على مصاب قلبك، ولكن عندما تهبط المطارق على المجموعة بأكملها، على تلك المؤسسة التي تسخّر المجموعة أيامها ولياليها في خدمتها، على عمل المجموعة وجهودها بل تحديداً على صفاء نوايا أعضائها، فهنا لابد من الخروج عن هذا الصمت الذي لم يدخلني فيه سوى ما هو أمرّ منه.

لست في عارض لوم منتقدي الأستاذ علي البغلي رئيس الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، فهو رئيس مؤسسة إنسانية رفيعة تتطلب منه محاذير كثيرة، وهو شخصية عامة عليها أن تتحمل كل أنواع النقد وتتوقعها وتتعامل معها وتتحمل مسؤولية تصرفاتها وأقوالها، كما أنني لا أعتب على من انتقدني شخصياً فمن حيث موقعي كعضو مجلس إدارة واختياري طواعية أن أبقي موقفي من الأحداث الأخيرة وأسبابه طي الكتمان، كل ذلك يشرعن النقد بل، أقول صادقة، يدعو إليه.

هذا الموقف تطلب الكثير من الصبر ومحاولة ضبط النفس أمام ضغوط واتهامات بقلة الشجاعة، أقبلها وإن استغربتها، فالاستقالة، التي يطالب بها الكثيرون، والتي تأتي نتيجة ضغط لا تحسب شجاعة بل رضوخا، وليس هناك أي خوف يتطلب الشجاعة أو أي خسارة تتطلب التضحية للاستقالة من عضوية مجلس إدارة حقوق الإنسان، فليس هناك أي مزايا لهذا المنصب سوى ذلك الإشباع لإيمان حقيقي ومبدأ مغروس في النفس، غير ذلك، ليس هناك أي مزايا مادية أو معنوية، ومن واقع تجربتي، لم يضف المنصب شهرة ولا كوّن لي علاقات تخدمني، بل إنه كان يستلزم موقف المعارض باستمرار الذي يكلف ولا يخدم، لذا، بالنسبة لي كانت الشجاعة ومجاهدة النفس في التريث وليس في التسرع، وفي محاولة توحيد الرأي والموقف وليس البروز بسبب اختلافه.

أما العتب الذي يخرجني عن صمتي اليوم فهو يتجه إلى كل قلم كتب وكل لسان نطق ليجرح في العمل المؤسسي للجمعية، وكأنها تدار دكتاتورياً وليس ديمقراطياً بنظام واضح لا يجرؤ من يكون أن يخرج عنه، ومن السهل أن يجلس الإنسان على وثير كرسيه ويرمي الآخرين بالتقصير والتنفع بل خيانة الأمانة، فكيف لجمعية يحوي مجلس إدارتها أسماء كمها البرجس وعبدالمحسن مظفر والدكتور محمد الفيلي ومظفر الراشد وغيرهم من الأسماء الرائعة أن تتهم بأنها حكومية متنفعة محابية؟ بل كيف لهذه الشخصيات أن تستمر في العمل في جمعية تدار، بادعاء البعض، فردياً، سياساتها انتهاكية وتوجهها متعنصر؟ هل هذه أسماء تقاد أم تقود؟ وهل هي أسماء تتعنصر أم تتسامى؟ كيف للخلافات الشخصية والتناقل السمعي للضغينة والجهل بالمعلومة أن تمحو بجرة قلم تعب وعمل سنوات طويلة أخذت علينا جميعنا حياتنا ووقتنا مع أسرنا وراحة بالنا، بل شيئا من أموالنا كذلك؟ كيف يمكن لمن لم يدخل الجمعية ولم يشارك في عملها في يوم، بل لم يكلف نفسه عناء التيقن من معلوماته أن يرمي بتهمه الحارقة ليصيب بها قلوباً أخلصت وضمائر اشتعلت وجهوداً بذلت على حساب الكثير؟

لقد عملت في مجلس إدارة الجمعية على مدى خمس سنوات، ولا أجد نفسي سوى فخورة بهذا المشوار القصير المتخم، مشوار تركني وزملائي في الكثير من الليالي مثقلين بالهموم، راقدين فوق أوراق العمل، مستندين إلى سماعة التلفون لأوقات متأخرة من الليل، عطلنا نقضيها في زيارات السجون، وأوقات فراغنا في التجاوب مع الإيميلات والرد على المراسلات. ليس في هذا فضل بالتأكيد، فهو من صميم عمل اخترناه طواعية وإيماناً، ولكن أن يشطب كل ذلك بممحاة الضغينة القاسية، فذاك ما لا يستحقه أي من أعضاء مجلس الإدارة، وكل قرار اتخذه مجلس إدارة الجمعية كان قراراً ديمقراطياً، في الغالب بالإجماع وأحياناً بأغلبية الأعضاء، فلم يحاول الرئيس البغلي في يوم فرض وجهة نظره.

أصدرت الجمعية بياناً بعد كل حدث إنساني في الكويت وخلاله بل في المنطقة، آخرها البيان الجريء بخصوص ثلاثة مواطنين تم القبض عليهم بتهمة التشبه بالجنس الآخر، فأهينوا، وعذبوا، ولم يستنكر الأمر نائب، ولم تعترض جهة سوى جمعية حقوق الإنسان.

شاركنا تمثيلاً في كل موقف تطلب الحضور الإنساني فكنا موجودين وإلى النهاية خلال محاكمات الفضالة والجاسم، واستكملنا الجهود حتى في غير أوقات المحاكمات، وتابعنا قضية الدكتور عبيد الوسمي عن كثب بزيارته في السجن، ثم بمقابلة المسؤولين حول موضوعه، ثم إصدار البيانات وغيرها،

وشاركنا وبقوة في موضوع معتقلي غوانتنامو، وكنا حاضرين بكلمتنا وموقفنا في يوم الصمود من أجل غزة وقافلة الحرية، وسهرنا أياماً لا أنساها لنصل إلى صيغة محددة لقانون العمالة المنزلية الذي جلسنا في اجتماعات تشاورية عدة بخصوصه مع لجنة حقوق الإنسان في مجلس الأمة، وما زالت الجهود الحثيثة مستمرة في موضوع البدون، ظاهرة وخفية، وبقيادة الدكتور غانم النجار، وهو الموضوع الذي من أجله اجتمعنا مرات لا تحصى مع مؤسسة «هيومان رايتس ووتش» وغيرها من المؤسسات لتفعيل كل الضغوط المحلية والعالمية الممكنة للوصول إلى أسرع الحلول.

كثيرة وكبيرة على القلب هي المهام المكلف بها أعضاء الجمعية، معظمها يتطلب العمل بخفوت، والكثير منها يتركك محروما من النوم، وتتمنى لو أنك لم تسمع ما سمعت ولم تعرف مع عرفت، وواجبك وضميرك يطلبان منك أن توغل أكثر، وأن تعمل بجهد أكبر. لا يمكن الحديث أكثر عن تفاصيل عمل الجمعية، ولكن آخر مهمة إدارية مضنية يمكن الإشارة إليها هي تعديل النظام الأساسي الذي بقي كما هو منذ تأسيس الجمعية، وقد كان هذا عملا شاقا تطلب من الأعضاء مراجعات وقراءات وإعادة قراءات، ثم الجلوس في اجتماعات عديدة مطولة بقيادة الدكتور الفيلي خبيرنا الدستوري، لإقرار أفضل تعديلات تناسب الزمان والمكان وتتواءم وروح قوانيننا، وبتوجيه خبيرنا اللغوي عمي عبدالمحسن مظفر الذي كان يدقق لغوياً بشكل أضنانا جميعاً، فكان النتاج نظاما أساسيا، رغم عدم اختلافه الكبير مع القديم، روحه متجددة، يستوعب المتغيرات ويوفر المزيد من الفرص للعضوية ويتواءم وزماننا ومتطلباته، ليأتي من لربما لم يخطُ داخل الجمعية في يوم؛ ليتهم هؤلاء العمالقة بمحاولة التغيير من أجل تحقيق مصالح لا يمكن لعاقل رؤية العلاقة بينها وبين التعديلات.

وهكذا تتبجح الكلمات لتصيب القلوب والضمائر الحية، كلمات تتناقل سمعياً كالعادة، أو تتخمر على العداء الشخصي، فتخرج مريضة معدية ليس لنا سوى أن نبعد وجوهنا عنها.

بلا شك، العمل التطوعي في أي مؤسسة مدنية يتطلب، بجانب نداء الواجب الذي قد يأتي في أي وقت دون اعتبار لظرف أو إجازة، قدرة كبيرة على تحمل نقد الآخرين وتأنيبهم، فالأداء في هذا المجال لا يمكن أن يصل إلى المثالية، ودوماً ما يكون هناك الأكثر الممكن عمله، لذا، يأتي النقد مستحقاً بل مطلوباً لإبقاء الضمائر يقظة والقلوب نابضة بواجبها، لكن أن تهاجم الجمعية وشخوص مجلس إدارتها بطريقة تنفي عنها عملها الدؤوب المضني وتحجر بها على سمعة هؤلاء الشخوص وتاريخهم، فتلك مطرقة تهبط على أوتار قلبي وضميري، مطرقة تتطلب وقفة، وها أنا أقفها هنا مطولاً.

إنني إذ أشكر كل من استفسر وعتب، واعتذر عن التمسك بالكتمان الذي لابد أن ينتهي في وقت قريب بما يضمن احترام شخوص أعضاء مجلس الإدارة الذين هم رموز إنسانية في الكويت لا يستطيع كائن من يكون أن يزايد عليها، وحتى الوصول إلى قرار جماعي لا يقسمنا ولا يزايد على الأسماء الكبيرة والتواريخ الناصعة للأعضاء، وحتى نتجنب الضرر والتعطيل اللذين قد يصيبا عمل الجمعية بسبب الانقسام في الرأي، فإنني أقدم عتبي لمن هبط على الجمعية وعملها وتاريخها المشرف بمطرقة تكسر ولا تبني، تشفي غليلاً ولا تشفي داءً، تنغرس في كرامات العاملين فيها، ومنذ سنوات طويلة، دون حتى عناء تقصي المعلومة حول نشاط الجمعية وعملها، مطارق تتناقل من يد ليد بحكم الاعتياد والتناقل التقليدي ومبدئية «اللي يحب النبي يضرب» حتى أدمت الرؤوس والقلوب، ومازلنا نلتزم صمتنا لا يقسرنا عليه شيء سوى إيمان بمبدئية العمل والخوف المستتب على إنجازات الجمعية ومستقبلها.

لا بأس، بل متوقع ومقبول و»على راسي من فوق» نقدكم الشخصي، فأنا ما زلت أبقي موقفي طي الكتمان وأنا أتحمل النتيجة، ولكن بالنسبة للجمعية، أرجو من كل من يمسك بيده مطرقة، أن يسأل، فقط يسأل، قبل أن يهوي بها، دمتم بأمان.

اترك تعليقاً