ليس الحي بأبقى من الميت
كل ما نقدمه ونقدم عليه من أجل غزة مهم، أو لربما أقول مؤثر، ولو لم تكن كلها بتراكمها كذلك لما كانت هناك محاولات حجب للنشر في انستغرام أو مراقبة وتآمر في تويتر أو كذب وادعاء في الإعلام المرئي والمسموع، لو لم تكن كل كلمة وكل صورة وكل تغريدة وكل مقال وكل مادة منشورة مؤثرة، لو لم يكن لتجمعها وتوازيها وتواترها عواقب وخيمة على الكيان الصهيوني والحكومات المساندة له، لما حاولت كل هذه «المؤسسات» السياسية الضخمة محاربة «بوست» بسيط هنا أو تغريدة قصيرة هناك، ولما وظفت ذبابها الإلكتروني لينشر الأكاذيب ويشوش على الحقائق، ولما حاولت شراء الأصوات الرخيصة منها وتلك التي لا يمكن شراؤها بأي ثمن. كل فعل مقاومة، مهما كان بسيطاً وصغيراً ومنعزلاً سيكون له أكبر الأثر في حزمة المقاومة الجمعية، سيشحذ همة، سيوضح معلومة، سيحرك ضميراً، سيوقظ نائماً، سيؤثر في إنسان والذي بدوره يؤثر في آخر والذي هو كذلك سيؤثر في آخر إلى أن تتجمع المقاومة كرة ثلجة صلبة ناصعة لا يمكن الوقوف في طريقها.
المرعب هو اللاشيء، هو الحياد، هو الشعور بعدم وجود علاقة، بأن الموضوع «لا يخصني»، بأن الإنسان المنفرد قوة ضعيفة، بأن حياتي أهم، بأن الحي أبقى من الميت. لا، ليس الحي بأبقى ولا أهم، هذا إذا كان حياً أصلاً، إذا كان هناك معنى لوجوده وهو يشهد الظلم صامتاً، وهو يناظر جثث الأطفال تدفن تحت الركام هادئاً، وهو يرى بشراً مثله يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاَ وألماً وحزناً وكمداً وتشرداً دون أن يستشعر حاجة لأن يقول شيئاً، أن يبدي اعتراضاً، أن يقدم مساندة. ليس هذا بإنسان حي بعد أن مات ضميره وتعطلت حواسه وشُلت مشاعره عن التواصل مع عذابات صغار بني جنسه. ليس هذا حي أبقى من ميت، إنما هو ميت، الأبقى منه هم هؤلاء الشهداء الأحياء في الذاكرة والتاريخ. هذا الإنسان هو مجرد آلة من شحم ولحم وعظم، تتحرك وتأكل وتشرب، وذات يوم ستموت، لكنها آلة باردة صلدة لا حياة فيها ولا معنى لوجودها، وليست أبداً ذات قيمة تجعلها أبقى من طفل دفع حياته ثمناً لتحرير وطنه. هذا الطفل هو الإنسان الأهم، هو الذي يصنع المعنى، وهو بلا شك الأبقى.
العتمة مرعبة، وعلينا ألا نقع في شباكها، ألا نشارك، تعباً أو كسلاً أو نسياناً أو تعوداً، في خلقها حول ممارسات الكيان الصهيوني. في العتمة تقع كل الجرائم القبيحة الشرسة، وكلما ارتفعت نسبة العتمة زادت نسبة الشراسة والوحشية. وعليه، فإن أقل ما يمكن أن نقدمه للقضية الفلسطينية هو أن نبقي في أيادينا مصابيح الحقيقة، أن نبقى ننشر ونتكلم ونتراسل ونتحاور، أن نعتصم ونجري المقابلات ونكتب المقالات وننشر الأبحاث ونتداول الخرائط ونكشف عن حقائق التاريخ ونقاطع، أن نبقى نقاطع، أن نتحول إلى مستغنين، أن نفقأ عين الغرب الاقتصادية بإصرار واستمرار، عل حكوماتهم بعد أن تفقد عيون شهوتها المالية، ترى المشهد بضمائرها، هذا إذا كان لها ضمائر.
أخطر ما يمكن أن يحدث لغزة اليوم هو أن «نتعب» نحن، ويا لغرابة الجملة! من معاناتهم وأساهم وموتهم اليومي الجمعي، أن نمل الأخبار ونعتادها، وأن نتصورهم قد اعتادوها كما اعتدناها، دون أن نستوعب أن كل موت جديد هو وجع جديد، كل صاروخ جديد هو رعب جديد، كل عطش وجوع وألم وجرح وإصابة جديدين معاناة متجددة لا يخفت الشعور بها لمجرد أنها وقعت لآخرين، لا يسهل التعامل معها لأنها حدثت وتكررت ونُشرت صوتاً وصورة. كل مصاب جديد يحمل معه الألم والوجع والمعاناة متجددين، كأنه جرح كلما التأم قرحه فكه سكين حاد من جديد. أن تتعود أنت مشهد أمّ فقدت ابنها لا يخفف مصاب الأم الثكلى القادمة، لن يساعدها تعودك على التعامل مع فكرة صغيرتها أو صغيرها تحت التراب، وهل ساعدك التعود ذات يوم في التعامل مع أحزانك المتكررة مهما بلغت بساطتها؟ وهل تتخيل أن يموت من حولك، أحبتك، فتعتاد وتصبح مستعداً لموت أقربهم إليك؟
لا تسمحوا للعتمة أن تغمر قضيتنا الإنسانية الأولى في العالم، قضية فلسطين المحتلة، قضية آخر احتلال عسكري واضح ووقح في القرن الحادي والعشرين، قضية تزوير تاريخ واستخدام دين لاضطهاد أرض وشعب للوصول إلى مأرب استعماري متوحش لا يفترض حتى مجرد توقعه في عصر حقوق الإنسان وعالم دولي منظم بعهود ومواثيق وقوانين دولية. السكوت ظلام، والظلام ساتر على الوحشية والجرائم والتعديات والمظالم، فلا تسكتوا.
الحياد ضعف، والضعف حاضن للتمادي والبشاعة، فلا تضعفوا. الاعتياد تخلّ، والتخلي مساحة خالية سيحتلها القاتل بلا أدنى تردد، فلا تتخلوا. غزة تحتاجنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهل نستسلم للتعب والملل والاعتياد أمام أسى الموت الجماعي الناتج عن القصف المتوحش، أم نرابط ونستمر؟