تحميل إغلاق

يقتلهم والدموع في عينيه

يقتلهم والدموع في عينيه

من أغرب ما يرد في خطابات الكيان المحتل هو لعب دور الضحية، هو بث مظلومية لا سبيل بعدها، بالنسبة لهم، لمحاسبتهم على أي بشاعة يرتكبونها. يستخدم الكيان المحتل جريمة المحارق النازية البشعة التي وقعت في منتصف القرن العشرين ليبرر بها ليس فقط سعيه لتشكيل دولة على أرض غيره ولصنع تاريخ لشعبها فوق التاريخ الحقيقي للشعب الأصلي، ولكن كذلك لارتكابه أبشع الجرائم في حق هذا الشعب الأصلي تهجيراً واستيطاناً وإهانة وذلاً وصولاً إلى القتل والتصفية الجماعية. تكررت الاحتلالات البشعة كثيراً في التاريخ الإنساني، توالت رواياتها بصور وحكايات وخلفيات ومبررات مختلفة، لكن لم يسبق قط أن هبط محتل على أرض «بمَسْكَنَة» وهجّر واستوطن «والدموع في عينيه» وطرد السكان وقتّل صغارهم قبل كبارهم وهو يبكي نفسه ويولول على مأساته، صانعاً من نفسه ضحية بكل صفاقة ووقاحة.
ولعل أسوأ ما فعله الكيان الصهيوني تجاه جريمة المحارق النازية هو إقحامها خلفية وسبباً وتبريراً لما يصنع الآن في فلسطين من جرائم بشعة. لقد أعاد الحراك الصهيوني المتوحش اليوم فتح باب بحث قصة المحارق النازية بكثير من التشكك وغياب التعاطف، وذلك لأسباب بديهية؛ فحين يتجبر ويبطش مظلوم الأمس ويرتكب جرائم موازية لجرائم مصابه التاريخي السابق، فهو إنما يضع قصته وتاريخه قيد المراجعة والتشكيك، والذي هو، أي التشكيك، واجب بحثي عام بالطبع في كل حالات البحث والتقصي التاريخيين والعلميين. ولكن، ورغم وجوب التشكك في قصص التاريخ التي يكتبها أحياناً المنتصر، وأحايين الشاهد على القصة وأحايين أخرى أطراف لا علاقة لها بالقصة من القريب المباشر، فإن جرائم الكيان الصهيوني الحالي دفعت بهذا التشكك لدرجة جديدة انقلبت على التاريخ وعلى مأساة الجالية اليهودية والموثقة تاريخياً في دولهم الأوروبية منذ بداية تشكل هذه الدول ووصولاً إلى جريمة المذابح النازية في منتصف القرن العشرين.
لقد قلب الكيان الصهيوني الطاولة على يهود العالم بكل أسف، الذين حسب بعض الإحصائيات، يقف ما يقترب من 70% منهم ضد جرائم الكيان الصهيوني ومع وقف إطلاق النار في غزة، بل ولربما رفض إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، بل وأي أرض أخرى في الواقع وبشكل تام، حيث يرون في ذلك مخالفة صريحة للعقيدة اليهودية الأًصلية. يتضرر يهود العالم اليوم بشكل كبير من جرائم الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ليس فقط ضرراً حالياً معاشاً من حيث النبذ الجمعي لهم، وربطهم وعقيدتهم، وإن كان بغير وجه حق وبسبب من ادعاءات الكيان، بحروب الإبادة والتهجير القائمة الآن على أرض فلسطين، ولكن كذلك من حيث تشويه ماضيهم وتقليل قيمة الجريمة النازية المرتكبة في حقهم، ذلك أنه واستسلاماً للطبيعة البشرية، حينما يشهد العالم البشاعات المرتكبة باسم الدين اليهودي، فإن الكثير من الناس، وخاصة المسلمين القريبين من الحدث، سينقلبون على فلسفة هذا الدين بالتأكيد وسيحفرون في نصوص كتبه المقدسة بحثاً عن إدانة له وسيراجعون التاريخ مشككين في جريمة المحرقة النازية وفي حجمها ووحشيتها. لقد شوهت «إسرائيل» كدولة -وهي في الواقع ليست كذلك، ذلك أنه لا توجد دولة حقيقية بالمعنى الحرفي وبحدود معلنة تماشياً مع قواعد الأمم المتحدة بهذا الاسم- سمعة الديانة اليهودية وتاريخ المعاناة والظلم الذي مر به يهود العالم على مدى الأزمان. «إسرائيل» عصابة محتلة، ميليشيا متنكرة في شكل دولة، حركة صهيونية متآمرة مع قادة أوروبيين كانوا يودون التكفير عن جريمتهم تجاه اليهود وفي الوقت ذاته التخلص منهم بورقة اتفاقية، وهكذا كيان لا يمكن أن يخدم أحداً، بالتأكيد ليس الطرف الذي يحتله ولا حتى الطرف الذي يحتل باسمه ويحاول تنفيعه.
لطالما سوّق الكيان الصهيوني لفكرة إعماره لهذه «الأرض التي هي بلا شعب» في صياغة لواحدة من أكذب الادعاءات التاريخية التي لا وزن حقيقياً لها عند أي مؤرخ يحترم عمله وأمانة بحثه العلمي. الأدلة على وجود ثقافة فلسطينية قديمة ودولة ناشئة كان لها كل ثبوتياتها وصولاً إلى جواز سفر خاص بها، لا يمكن دحضها. اليوم، مع البشاعات التي يرتكبها الكيان الصهيوني على أرض غزة وفي الضفة الغربية وفي بقية القرى والمدن الفلسطينية، عاد البحث الغربي لتقصي «حقائقه» ومراجعة معتقداته التاريخية والثقافية والسياسية، ما قلب الطاولة قلبة مرعبة مفرحة على الكيان المحتل بكل كذباته التي تبين أنها الآن ما كانت سوى مساحيق تجميلية رديئة سرعان ما تجعدت وتكرمشت زيوتها متساقطة من على وجه الحقيقة المؤلمة التي حاول هذا الكيان مطولاً إخفاءها. وعلى الرغم من فداحة الثمن، فإن جرائم الكيان قد خدمت الحقيقة وكشفت التاريخ، موقظة ضمائر الناس للعودة إلى البداية التي حاول هذا الكيان مطولاً وحثيثاً طمسها. لقد ذهب الكيان الصهيوني، بجرائمه المنطلقة بلا رادع دولي، لأبعد بكثير مما تحتمل أكاذيبه وادعاءاته، وكشف عن عورته المشوهة ومعها عورات بقية الحكومات المتآمرة الساقطة، ليتحول ما حسبها حرباً مبررة ستجذب تعاطف الناس وستحقق له مراد احتلال غزة وإنهاء مقاومة حماس، إلى أكبر سقطة عسكرية سياسية ارتكبها في تاريخه، والتي أوصلته اليوم إلى نقطة اللاعودة، اللاعودة عن نهايته وعن تحرير فلسطين.
هذا هو مصير كل عصابة مستكبرة تتصور أنها أكبر من الحقيقة، وأنها تستطيع محاربة المنطق، وأنها تقدر أن تنطلق بلا أي أخلاق إنسانية رادعة، مصيرها إلى نهايتها وذكراها إلى مزبلة التاريخ.

اترك تعليقاً