تحميل إغلاق

بجعـة

بجعـة

اليوم، يوم كتابة المقال، كان يوما عسيرا، إجتاحني شعور بالغربة والوحدة لم يمران علي بهذه القوة منذ زمن. في حديث لي صباح اليوم مع بعض الأصدقاء، دار حوار حول تاريخ القرآن: كتابته، اللغة المستخدمة، علامات التنقيط والترقيم المضافة لاحقا، شخوص المساهمين في عملية التجميع، خطوات التوثيق ومراحله. كنت أرى الغضبة وقد أخذت فقاعاتها تتناثر على وجه محدثي، الا أنني لم أتوقع الوصول لمرحلة الغليان. قلت له رأي مخالف وأشرت لأبحاث المستشرقين والعلماء الألمان الذين لربما لهم الباع الأطول في هذا المبحث، الا أن محدثي، الذي تفاجأ تماما من إشاراتي هذه مؤكدا أنه لم يسمع من قبل بأي بحوث تشير لإختلاف آراء حول مراحل كتابة وتجميع القرآن، لم يعط لرأيي متنفسا، لم يعط لنفسه الفرصة لبحث المعلومة التي أفضيت له بها والتي، وكما أقررت له أنا، قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. إنتهينا الى فورة غليان تفاجأت أنا منها رغم كل مقدماتها.
دار بعدها حوار بيني وبين صديقة لي، قالت، لربما التساؤل والنقاش ليسا الإختيار الأمثل في مجتمعنا، ندع الناس لم يعتقدون وللمعلومات الرائجة التي يعرفون. فكرت كثيرا في رأيها، فتنازعني توجهان أولهما أن أكون رحيمة فلا أؤذي مشاعر الآخرين ولو بإطلاق رأي، فمعظم أصحاب العقيدة، أيا كانت، يجدون صعوبة بالغة في تخطي الخطوط الحمراء، في الإطلاع على الخفي المخفي، في البحث في التاريخ الذي قد يكشف جوانب ما كانوا ليرغبوا في التعامل معها. أليس من الرحمة وحسن التعامل مع الناس عدم إثارة الشكوك تجاه المسلمات وتركهم في راحة المعرف والسائد والمقبول؟ ما أن أنتهي من هذا التوجه حتى ينازعني نقيضه، أن أكون مقدامة لا متراجعة، فلا أختار طريق السكوت السهل الذي سيريحني من وجع غضبات المتحاورين ومن جهد الجدال الذي يبدو عقيما في الكثير من الأحيان والذي سيضمن لي الرضا والقبول، فالتغيير لا يحدث عندما نسلك الطريق السهل فنهرب من الحوار أو نترفع عنه أو نتكاسل تجاهه. وهكذا بقيت الفكرتان تتنازعاني: السكوت فالراحة أم الحوار فتحريك المياه الراكدة؟ السكوت فالقبول وعدم جرح مشاعر الآخرين أم الحوار فالنفور وإيجاع الآخرين ووضعهم في مواجهة أفكار وأخبار لا تتحملها النفوس بإيمانياتها التقليدية ومعتقداتها التامة التي لا مجال للتفكر بها؟
في طريق عودتي للبيت فتحت صفحة إنستغرام صديقة أخرى لي، فإذا هي في نزهة غداء مع ثلاث صديقات أخريات، كلهن ظهرن بحجابات رؤوسهن الجميلة «المودرن»، كلهن بدين سيدات عصريات مثقفات جميلات مستمتعات بالحياة دون نزاع أوعراك أوتصادم مع السائد. بدت هذه السيدات ممسكات بالعصا من منتصفها، الدين في ضفة، والحياة بمتعها في الضفة الأخرى، الاستمتاع بأسلوب الحياة الحديث الذي هو نتاج حضارة غربية بنيت على الشك والتساؤل والبحث في كل ثابت مقدس في ضفة، ورضا الناس وقبولهم وإحتوائهم لهن في ضفة أخرى، فلم لا أكون أنا كذلك؟ لم لا يكون لي نصيب من هذه الحياة؟ إنتابني لحظتها شعور حارق بالغربة، كأنني لا أعرف صديقة عمري هذه الظاهرة في الصورة، كأنني بعيدة ملايين السنوات الضوئية عن حياة صاحبات الصورة، عن ابتساماتهن، عن خروجاتهن الحميمة، الغداءات المرحة، الحوارات التي تتفقن كلهن عليها، دون تساؤلات أو اعتراضات أو آراء مخالفة ومباحث جديدة وشك وظن وتفكير، فقط إتفاق يجعلهن جميعا جزء من كيان واحد، يضعهن جميعا في حماية بعضهن البعض. كم هو جميل ومريح الشعور بالانتماء.
حين يوحش الطريق أتصل أمسي على والدي، فقط سماع صوته يعيدني الى شيء من نفسي، أعود للبيت مسرعة لأحكي لزوجي، أسرد الأحداث فيرد علي بصيغة الجمع: «هذا رأينا، نحن واثقون من موقفنا» فيعود لي شعور الطمأنينة ويهدي قلبي أمان الانتماء الى صفه. أقول له إنني أشتاق أن أتحدث مثل الصديقات، أن أنتمي لهن مثلهن، أن لا أكون مادة التندر بسبب اختلاف مواقفي وآرائي حين تأخذنا الحكايا، مرة أريد أن أن أنتمي لدائرتهن، أن أنظر الى الخارج من الداخل، أن أكون في حماية المجموعة، أن أتندر معهن على «المجانين» الذين يقولون ما لا يقال ويمشون عكس السير، لم أعد أطيق أن أكون «البجعة المختلفة»، أريد أن أكون بجعة تحبني وتشملني بقية البجعات. يخفف عني زوجي: يا ستي أنا أحبك رغم عنقك الملتوي وريشك المختلف، أضحك معه على الدعابة، أغلق عينيّ، أرى بجعة منتوفة الريش، يرق قلبي لها، عبيطة مسكينة.

اترك تعليقاً