تحميل إغلاق

حرب بلا حدود

حرب بلا حدود

أصبح تويتر مساحة متعبة ومزعجة، كل يوم تأخذ من سماحة نفسي ورضاها أكثر. ليست المشكلة في الهجوم الشخصي أو الأساليب الموجَّهة القاذعة، تلك يتعرض لها الجميع لتتحول إلى تمرين يومي شخصي لكل منا على تحمل الرأي الآخر مهما بلغ عنفه وعلى التعامل مع الحق الإنساني الأصيل لحرية التعبير مهما تبدت من بشاعات تبعاتها.

لم يعد الهجوم الموجهة الشخصاني ذي ثقل كما كان سابقاً، أتصور بالنسبة لمعظمنا، ذلك أن تويتر دربنا فأحسن التدريب على استقبال الكراهية الشخصية غير المسببة في الكثير من الأحيان، كما وأنه مكن الكثيرين منا (مع الاعتراف بغرابة إشارتي لمستخدمي تويتر جمعياً هكذا) من التعامل معها بحيادية ولامبالاة إلى حد كبير.

ما يثقل علي، وأتصور على الكثيرين غيري، هو الحملات التويترية التي تأتي في صور أوسام أو على شكل ردود على موضوع معين لتُظهر، هذه “الهاشتاغات” والردود، أبشع ما في النفس البشرية من أفكار وتوجهات ومشاعر، كلها حبيسة مساحة واحدة، كلها متراكمة في تلة داكنة ضخمة ترى قاعدتها ولا تميز قمتها، كلها متجمعة في موجة هائلة مليئة بالنفايات الفكرية واللفظية، لتهبط على الرؤوس مغرقة الجميع في بحر من الفساد الروحي والفكري. لربما نحن البشر “غير مصنوعين” لهذا المقدار من الاطلاع الجمعي على ما في الأرواح والنفوس، لربما هو ليس مما يتناسب وقدراتنا النفسية والذهنية أن نعرف هذا القدر الضخم مما يدور في عقول بعضنا البعض، لربما الأصح والأسلم أن يبقى الكثير مما يدور في الرؤوس حيث هو، في الرؤوس، دون أن يخرج للعلن وبهذا الشكل الجمعي المرعب.

كتبت قبل أيام أشير إلى مساعدة إجرائية مستعجلة لبعض المقيمين في الكويت والمحتاجين لاستقدام أطفالهم وذويهم من دولهم حيث تركوهم لفترة مؤقتة لسبب أو لآخر. ومما لا شك فيه أن الكويت تعاني في السنوات القليلة الماضية من رد فعل سلبي منتشر تجاه مقيميها، ولهذا الموضوع أسباب عدة سبق وفصلتها وأشير إليها سريعاً هنا حيث أهمها يقع على عاتق الإدارة الكويتية التي تتجاهل تطوير الخدمات وزيادة مقدارها تماشياً مع الأعداد المتزايدة لسكان الكويت بين مقيمين ومواطنين مما يستثير مشاعر السخط بين الأخيرين الذي يستشعرون أقليتهم في دولتهم، معانين من اكتظاظ شوارعها وتأخر خدماتها المفترض أن تكون سريعة وعالية الوفرة بالنسبة لهم. إضافة إلى ذلك، تستقدم الكويت مؤخراً العمالة الأقل تأهيلاً والأضعف علمياً وذلك لأسباب مالية وأخرى متعلقة بفساد تنفيع المتنفعين الأقوياء. هذه الأسباب، بالإضافة للارتفاع العالمي الملحوظ في التوجه العنصري والقادم من أقوى الإدارات السياسية في العالم، شجع الصوت العنصري التمييزي في كل مكان، وسمح لما لم يكن ليقال سوى في التجمعات الخاصة المغلقة لأن يقال اليوم علناً وبفخر وتباه، وليست الكويت بمعزل عن هذا التوجه العالمي المصاب في إنسانيته اليوم.

عودة لما كتبته على تويتر بخصوص المساعدة الإجرائية، أتت الردود المكتوبة لتتراكم في كومة من الأذى اللفظي والروحي فاقت حدود الاختلاف البشري المعقول لتنطلق إلى مساحة معركة عشوائية، كل لفظ فيها مسموح وكل أذى فيها مقبول تحت مسمى الوطنية والمواطنة. ليس هؤلاء كل الكويتيين بكل تأكيد، بل هم لا يمثلون أغلبية مطلقة، لكنهم يمثلون عددا لا بأس به، عدد جمعته مساحة تويتر في موقع واحد ليضربوا جميعهم بالخنجر “ضربة رجل واحد” ولتتفرق دماء كرامات ومشاعر الناس بينهم، فلا يعود المتضرر يعرف من طعن الطعنة الأولى. هؤلاء المرضى التويتريين النفسيين لا يجتمعون في الحياة العادية في مكان واحد، لا يكتبون بنفس واحد ولا يتوالى أذاهم تباعاً في خط زمني واحد، لكن تويتر حقق لهم هذا التجمع المرضي، وفر لهم بيت رعب يسكنونه جمعياً ويتبادلون فيه سم الكلام فخراً ليطلقونه على كل من هو خارج مساحتهم المؤذية. تويتر جمع الشر حيث بالكاد نستطيع التعامل معه متفرقاً، أعطى الصوت العنصري المريض قوة حيث بالكاد نستطيع رد الضعيف منه، وَحَّدَ سِهام الكلام لتنطلق كلها انطلاقة واحدة فتصيب الناس عشوائياً بلا حساب ولا رادع ولا أدنى اعتبار لظروف ومشاعر وآلام النفوس.

لسنا مصنوعين للتعامل مع مثل هذا الشر الجمعي، مثل هذه القذاعة الموحدة، نحن نستطيع كبشر أن نتعايش مع الأذى منفرداً، متفرقاً، لا مجتمِعاً مستقوياً ببعضه البعض بمساحته الجامعة. لكن تويتر أتى فجمع الشر، وحده، قواه وأعطاه صوتاً رناناً لا صاد له، حيث الصوت الأخلاقي الطيب دوماً ما يتنحى ويأخذ مقعداً خلفياً، مشاهداً غير مشارك، متعالياً عن، ربماً متخوفاً بل ومستقبحاً، المشاركة في هذا الحوار القاتل. أجدني حقيقة تائهة في هذا الموج المتلاطم من الأذى، لا أنا قادرة على صده والتصدي له بالحجة، ذلك أن التصدي في تويتر عموماً يحتاج لجيش جرار متفرغ للكتابة، ولا أنا قادرة على التجاهل والترفع والذين أرى فيهما الكثير من الضرر من حيث إخلاء الساحة للأشرار من بني جنسنا، ولا أنا قادرة على اتخاذ قرار المغادرة الذي سيؤثر على الكثير من العمل المجتمعي والنشاط الإنساني الذين أشارك فيهما. كيف لنا أن نحيا بسلام في مساحة بشرية تضمنا كلنا، بكل تنوعنا المتدرج من أقصى الخيِّر إلى أقصى الشرير؟

آخر شيء: قبل الانتهاء من كتابة المقال، وقع حدث يشير إلى مثال مهم لتدهور العلاقات بين الكويتيين والمقيميين، المصريين تحديداً. قامت على أرض الكويت مباراة ودية بين مصر وبلجيكا يوم الجمعة الماضي شابها سوء تنظيم شديد أفسح المجال للجالية المصرية التي حضرت المباراة للتدافع وأخذ المقاعد المتاحة في الملعب دون حتى سابق حجز. خرج الكثير من الحضور بمشاعر استياء عارمة، وبالطبع انصب جام الغضب على المصريين الحضور الذين تسببوا في فوضى شديدة. السؤال هو، لو أقيمت هذه المباراة في بلجيكا مثلاً أو في إسبانيا، هل كان ليتجرأ المصريين أو غيرهم على التدافع وكسر القوانين واحتلال المقاعد بلا سابق حجز؟ الجواب هو لا في الأغلب الأعم نظراً لوجود قوانين رادعة وتنظيم قوي خصوصاً في ملاعب كرة القدم ومع مشجعين هذه الرياضة من كل بقاع الدنيا والذين، أعمم عليهم بلا خجل، أنهم أسوء أنواع المشجعين وأصعبهم تنظيماً وأكثرهم تطرفاً. إلا أن الناس عموماً تميل للوم من هم أمامهم مباشرة أو للتنفيس في الحلقة الأضعف دون اللجوء للتحليل المنطقي أو التقييم العقلاني. غياب تنظيم مباراة يوم الجمعة الماضي في الكويت رفع نسبة النفور درجة، ومع كل إساءة تنظيم أو كسر لقانون أو تمكين لفساد سترتفع نسبة النفور درجة أخرى. الطرف الأوحد القادر على إيقاف هذا النفور المتبادل هو الطرف الأقوى، حكومتي الدولتين المعنيتين، وإلا سترتفع نسبة الكراهية ويبزغ معها العنف وندفع بهما كلنا الثمن.

اترك تعليقاً