ليان
تتعلق الغصة في حلقك وكأنها حصاة محشورة، تفتح باب السيارة فتلفحك رائحة، لا ليست رائحة عفن وقاذورات فحسب، بل هي رائحة الفقر والأسى، خليط من روائح لنفوس هزمت، وقلوب كسرت وطفولة فقدت. تتقدم وأنت متردد، لا تريد أن تواجه عذاباً طالما شاهدته خلف شاشة التلفاز يحميك منه، يبعدك دهوراً عنه، والآن ها أنت تواجهه وضميرك الذي صحا بعد غفو طويل جميل. يتراكض نحوك الأطفال، أسمال بالية ووجوه ملطخة، هذه تشبه ابنتي، وهذا يذكرني بابن صديقتي، وعشرات آخرون، يقتربون فينخرون قلبك وأنت تربط وجوههم وحركاتهم بالأحبة الذين تركت خلفك في حماية البلد والأهل. تود لو صررتهم في صرة وهربت بهم من أسى لا يحتمل، ولكن أمام واقع لا يسعفك تجدك تقبّلهم، تمسح على رؤوسهم المشعثة، تعطيهم قطعة حلوى، تنظر في عيونهم، ثم تستدير، تمشي باتجاه سيارتك، ثم لا تلبث أن تهرول، تريد أن تغلق باب جهنم، تريد أن تهرب من الأسى، لا تعي أنت، لا تعي أنك حملت الأسى بين ثناياك، أنك من اليوم تمشي بنصف قلب، يخفق نصف خفقة.
ليان طفلة رضيعة، اهترأ قلبها بسبب برد اخترق جسدها النحيل وهي تنزح بين يدي أمها من سورية إلى لبنان. وصلت أخبار ليان إلى الكويت، إلى عبدالكريم الشطي المشغولة سنوات شبابه اليافع بآلام وآمال الآخرين، شد الرحال إلى لبنان ليقدم المساعدة، ولكنه وصل متأخراً، توفيت ليان. انسحق قلب عبدالكريم فنذره للحياة والطفولة، ماتت ليان فبعثت مجموعة “ليان” لتعتذر من قلبها الصغير، وكأن عبدالكريم يحاول أن يضخ بها الدماء، أن يعيدها للحياة في كل طفل ينقذ وكل طفلة تدفأ وكل رجل وامرأة يطعمان ويوقيان من التشرد.
كبرت “ليان” بسرعة، انضم لها الشباب المتحمس، يزورون اللاجئين السوريين في مناحي شمال لبنان، يبيتون أياماً بينهم أو بين أصحاب اللجان الخيرية المسؤولة عنهم، يتفقدون الأحوال ويوثقون الأعداد، عمل لا غرض منه ولا هدف وراءه ولا أحد يعلم به، لا أحد. خابرنا شباب “ليان” كمجموعة من الناشطين الكويتيين، قالوا رافقونا حيث الإنسان لا يجد سبيلاً للبقاء إنساناً، فقلنا نرافقكم، نتفقد إنسانيتنا في الطريق، نتمم على قلوبنا، أأكلتها المصالح؟ أأعمتها الراحة؟ أجففها النسيان واللامبالاة؟
هناك على الحدود، حيث لا مشاغل ولا مصالح، تجد نفسك في مواجهة مع النفس، مع معنى الحياة، مع التضاد الشاسع بين المصائر. صور وقصص لا تحفر في ذاكرتك، ولكنها توشم في أعماق النفس، كلما تذكرتها اشتعل الوشم حريقاً في كبدك. فمن أسرة تعيش في مزرعة دواجن، تتنفس هواءً معجوناً بروث الحيوانات، تدفع مقابل سكناها خدمة الأم العليلة في المزرعة، لتعود لخرابتها التي تسكن آخر النهار ينتظرها زوج أكثر مرضاً وأربعة أولاد حفاة عراة، إلى أخرى تنزل ضيفة على بلاط بيت صديق فقير، يحملون معهم ابنة ضريرة، تلتصق بثوب أمها كلما سمعت أصواتنا الغريبة، تنتفض كجرو مبلول، ومعها تنتفض السماوات والأرض وما تبقى في نفوسنا من حياة.
ثم نعود، نعود لا كما ذهبنا، نعود ومعنا أطفال وأسمال، معنا نحيب ودموع، معنا أم حمزة وأطفالها الخمسة، تصنع لنا، بعد أن وفر لها فريق “ليان” المال المطلوب، “مقلوبة” سورية، تفرش لنا سفرتها على استحياء فوق بلاط غرفتها. في مطبخها الخالي أقف أدندن معها ترنيمة سورية، نضحك، تخترق رائحة الأرز الشهي رأسي، “لا شيء يشبة طبخ الست السورية يا أم حمزة”، “أنا فنانة في الطبخ يا دكتورة”، “أحمد الله أن زوجي لم يذق طبخك إذن يا ستي”، نضحك، نغرف الأرز، تتلامس الأيادي، تنظر في عيني “كنت يوماً زوجة لها قيمة مثلك يا دكتورة”، “أنت اليوم زوجة ومناضلة قيمتها أكبر من قيمتي يا أم حمزة”، تغرورق عيناها، تمسح وجهها بطرف كمها وتكمل دندنتها، تتحدى بها الزمن والظلم وسترتي الصوفية التي تعريني لبرد الضمير بينما تتدفأ هي بفستانها الأخضر ناحل اللون، تدور به في مطبخها الخالي، تغني، أصفق لها، ونسكب الأرز.
لم أشبع كما شبعت عند أم حمزة، ولم أجع كما جعت على طرقات طرابلس، جوعاً يلفك لأي شيء أو أي شخص يقول لك إن ما ترى وتسمع ليس بحقيقة، ولكنها الحقيقة، حقيقة نظام شرد أهله وقطع أوصال مجتمعه وأعمل سكين الحاجة والعوز والخوف في أحشاء أطفاله. دونكم ليان، خلدوا ذكراها، دونكم “ليان” ساعدوا شبابها، كل مبادرة تحدث فرقاً، تستر عائلة، تحيي لياناً ما كان يجب أن تموت.
للتواصل: الصفحة الإلكترونية
http://layangcc.net/main /
البريد الإلكتروني ayadi911@gmail.com