تحميل إغلاق

هل ستكون أنت أنت؟

أورلان أمام أحد أعمالها الفنية

هل ستكون أنت أنت؟

كتبت في المقال السابق أناقش الفكرة التي لخصتها د. مشاعل الهاجري في جملتها “صار الجمال رخيصا، رخص عبوة”، وما تحمله الفكرة من تأثير على أرض واقع الجمال. فما بين رخص التحصّل على هذا الجمال وما بين انتشاره في صورة نسخ مكررة من ذات المقاييس، يلح السؤال: كيف ستقاوم قيمة الجمال وكيف ستتأثر مقاييسها من حيث نوعيتها وتفردها وسرعة تغيرها؟ لتقود هذه الأسئلة لسؤال المقال الحالي حول مدى تأثير مظهرنا على مخبرنا؟ هل يمكن لتغيير الشكل الخارجي أن يحدث تأثيرا عميقا وتغيرا “مساو في المقدار مضاد في الاتجاه” في الخامة الداخلية الإنسانية؟ هل ستكون أنت أنت حين تتغير ملامح وجهك وشكل جسمك ولون بشرتك؟

تعاملت الفنانة الفرنسية ميريل سوزان فرانشيت بورت المعروفة باسم أورلان، مع هذا الموضوع في عروضها الفنية المعروفة بأنها من فئة فن Performance Art أو الفن الأدائي حيث حاولت من خلال عروضها الغريبة أن تغير الهدف من عمليات التجميل، في استدارة عريضة ملفتة لنقد عمليات التجميل هذه، ونقد التركيز الحالي على الشكل الخارجي، وذلك عن طريق تحويل نفسها إلى، كما يقول موقع culturacolective “عمل فني يسير على قدمين”.

طبقا لذات الموقع، وضعت هذه الفنانة نفسها تحت سكين الأطباء منذ عام 1978 حين دخلت غرفة العمليات لإجراء عملية إزالة حمل خارج الرحم، حيث أنها طلبت في حينها من الفريق المرافق لها تصوير العملية كاملة كما وطلبت من طبيبها أن يبقي على وعيها أثناء العملية ليكون ذلك “وسيلة ممتازة لاستيعاب مفهوم الألم وعلاقته بالجسد.”. ومن حينها، بدأت في “تشكيل عروض أدائية كانت تغوص في معنى الجسد وطبيعته”. بعض عروضها عصية على المشاهد العادي، دع عنك المحافظ، وعليه فلربما التوسع في شرح هذه العروض لن يكون مقبولا للقارئ العربي.

ما يهم هو ما قامت به أورلان خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، حيث أنها “خضعت لعدد من العمليات لتحويل جسدها إلى عمل فني”. إلا أن أداءها هذا عرضها لحملة نقد شديدة من حيث أن قرارها الفني هذا تغاضى عن مخاطر عمليات التجميل الصحية ولربما “خضع لمقاييس الجمال المطلوبة”.

إلا أن مهمتها في الواقع، كما تؤكد هي ويؤكد الموقع الناقل للخبر، كان على عكس ذلك تماما، فقد كانت ترمي إلى “تحطيم الصور المفروضة من المجتمع وذلك بالإشارة إلى التاريخ والفن. في خلال خمسة سنوات، خضعت لتسعة عمليات وفي البعض منها أرادت تقليد أعمال فنية مهمة، على سبيل المثال حين طلبت تنفيذ جبهة الموناليزا. أضافت كذلك بعض العمليات التجميلية الإضافية مثل النتوءات التي تشبه القرون”.

لقد كان لأورلان رؤية لن تتحقق، كما يبدو من توجهها، سوى بتقديم صور فنية عصية على الرؤية والتقبل. لقد كان هدفها “إثبات أنه يمكن للإنسان أن يعيد خلق ذاته، وأنه يمكن لك أن تغير مفاهيمك حول الجمال لو أردت ذلك. لقد كانت تنظر لغرفة العمليات على أنها خشبتها المسرحية حيث تحول جسدها إلى لوحة بيضاء كل قطع أو شرخ فيه شكل جزء من تحولها ومن العملية بحد ذاتها”.

اليوم، تعتبر أورلان أيقونة في مجال الفن الأدائي رغم أن أعمالها ما زالت تقسم الرأي العام بشدة حيث يتهمها البعض بالرغبة في جذب الانتباه، في حين يراها آخرون أيقونة حية للفكر النسوي.

في كل الأحوال، أورلان فنانة عصية التوجه على الطبيعة البشرية، إلا أن أعمالها تأخذ بك مباشرة وبقسوة خالية من التمهيد إلى حيث هذا السؤال الوجودي البشري الحارق: هل نحن الجسد الخالص أم نحن أكثر من ذلك؟

وفي تساؤل أبسط من كل ما جاء أعلاه، وبعيدا عن أسلوب أورلان الصارخ في مساءلة موضوع مقاييس الجمال، تحضرني الصغيرات ومدى تأثير صناعة الجمال عليهن ومدى قدرتهن على مقاومة المغريات حولهن؛ هل من العدل أن نحاكم استسلامهن للمقاييس الحالية ولسهولة ورخص التحصّل عليها حين تبيعها إليهن بشكل مستمر وهيستيري كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة؟ هل من المنطق أن نتوقع ثباتا في النفسية والعقلية الإنسانية حين يتغير الشكل بالسرعة والرخص المتوفرين؟

لربما عمليات تخفيض الوزن الجراحية، رغم أن أغلبها لا يقع تحت خانة التجميل وإنما يعتبر حاجة طبية، هي أفضل مثال على تأثير سرعة التغيير الشكلي على النفس البشرية، حيث يعاني العديد، وليس الكل، ممن خضع للعملية إلى تغيّر نفسي شديد يصل أحيانا لحد الاكتئاب، وحيث يتسبب تغيّر الشكل السريع في تغيّر أسلوب وشخصية صاحب العملية، ليصبح هناك انعطافا حادا في هذه الشخصية محاذ للتغيير الواضح في الشكل الخارجي.

ولكن بخلاف هذا الاتصال بين الداخل والخارج الإنساني، تبقى المعضلة الفلسفية هي: ماذا تعني وفرة الجمال وسهولة وسرعة التحصّل عليه؟ ماذا يعني تيسر تحقيقه دون الحاجة لجهد أو وقت من صاحبه مما يخلي الإنسان من أي فضل تجاه جماله الجسدي والشكلي؟ ماذا ستصنع وفرة الجمال في قيمته؟ كلها أسئلة بدأت بها المقال الماضي وأنهي بها المقال الحالي، في استدارة فكرية كبيرة توحي بأن الزمن وحده كفيل بالإجابة.

وقبل إنهاء المقال، يجدر بي أن أسأل سؤالا تمييزيا، هل من اختلاف بين الرجال والنساء في الإقبال على سلعة الجمال وفي تأثير وفرتها على النفسيات والعقول؟

اترك تعليقاً