كوميديا في زمن كورونا
بعد جدل قصير مع زوجي إصراراً مني على الذهاب إلى السوق المركزي لتبضع حاجيات البيت الغذائية، وبعد أن مررت بتجربة تسوقية وحيدة عصيبة لم أخرج خارج منزلي لغيرها لما يقرب الشهر الآن، قررت أن أتنازل عن شيء من كبريائي وأعترف بخطئي وأترك مشوار التبضع هذا لزوجي، متظاهرة أن موقفي هذا تهدئة لخاطره ومراعاة لخوفه عليّ لا استسلاماً لمخاوفي الشخصية. اليوم إبان رحلته للسوق المركزي لشراء حاجيات البيت، قررنا تشغيل اتصال الفيديو لأتمكن من التبضع مرئياً معه. وبعد جدل آخر قصير حول سيدتين مرتا من أمامه، من هما؟ ما أسباب مرورهما أمامه؟ لم ظهرتا على شاشته؟ وبعد أن سمعت ضحكته الرائقة وصوته الرخيم ساخراً مداعباً، ضحكته وسخريته ودعاباته هي كل ما أنتظر حين أجادله بأسباب ودون أسباب. المهم بعد كل ذلك، سمعته يتحدث إلى «زميل» آخر له في الحياة الزوجية، متبضعاً هو الآخر، على ما يبدو، لبيته. كان النقاش يدور حول محتوى علبة، هل هو حليب عادي أم مركز؟ بعد ذلك، سمعت زوجي يسدي نصيحة «لزميله» حول علبة الكريمة، مؤكداً أنها «قيمر» على ما نسميه في الكويت، وأنه النوع المطلوب.
بالكاد استطعت احتواء ضحكاتي وأنا أسمع الرجلين يتناقشان من منطلقات جهلهما المطلق بما يتحدثان به، كلٌّ متظاهر أنه يعرف موضوع حديثه. وعلى الرغم من الطبيعة النسوية لبيتي ولأسلوب حياتي، إلا أن الكثير من دقائق حياتنا متشكلة بعاداتنا الشرقية. كنت ولا أزال لا أحب دخول زوجي إلى المطبخ، لا أحبذ تعامله مع أدواتي، ولا أفضل تبضعه لاحتياجات بيتي. ليس هذا في عرفي قانوناً اجتماعياً، إنما هو قانوني الشخصي الذي كنت من خلاله قد أصدرت فراماناً في بداية حياتنا ألا يكون لزوجي دور كبير في المطبخ أو التبضع له. كانت الصديقات يلمنني على عدم تحميل الزوج مسؤولية شراء حاجيات البيت، لكنني كنت أرى في هذه المهمة نقطة قوة وسيطرة لصالحي ما كنت على استعداد للتخلي عنها، وكان زوجي في غاية السعادة للتنازل عنها.
ينقلني هذا إلى الصراع المطبخي المستجد مع السيدة صفية، مدبرة منزلنا لما يزيد على الثمانية عشر عاماً الآن. وصفية هي أختي التي وهبتني الدنيا إياها، إلا أن الفترة الكورونية الحالية أشعلت صراعاً خفياً بيننا، بدأت طلائعه تظهر لبقية أهــــل البيت.
منذ بداية الحجر، بدأت أعيد نفسي أكثر للمطبخ، أعدت ترتيبه وتنظيفه، وأصبحت أطبخ معظم وجباته وأوجه بعض التعليمات حول إدارته لصفية، وهو ما لم تتقبله هي مني قط. بدأت حالة من النقد (من تحت اللسان) تدور بيننا، نهمهم ونحن نقف معاً في المطبخ تشكياً وتأففاً خفية كل تجاه الأخرى، وصولاً إلى حالة من تبادل الاتهامات المعلنة بيننا، التي أدت إلى خلق اصطفافات بين أفراد الأسرة بين فريق صفية وفريقي. إلى الآن، الكل في فريق صفية تعاطفاً مع هذه السيدة التي اعتنت بهم على مدار كل تلك السنوات، كلهم يصطفون معها رغم ما يعرفون من عنادها وأحياناً إهمالها لطلباتي الإدارية، فريقي أنا يتكون مني وحدي حالياً، لا بأس، أنا أكفي وأوفي.
بدأت الآن أبدع حقيقة، شهادة من نفسي لنفسي، في الطبخ والعجن والخبز، يأكل الأولاد الآن خبزاً بيتياً طازجاً كل يوم، أصبحت أتقن صنع الحلويات، دون إسراف، التي تنال الكثير من إطراء زوجي. رغم ذلك، تبقى صفية خطاً أحمر، فما أن أحاول أن أوجه المنافسة لتأخذ شكلاً تقييمياً بيننا، حتى يصطف الجميع معها فيما يوهج شعلة الصراع الخفي المطبخي بيننا. صنعتُ تقييماً رقمياً للوجبات؛ فبعد كل وجبة على كل أفراد العائلة أن يقيموا الطبخ وطريقة التقديم على مسطرة من 1 إلى 10، وهو ما أصبحوا يتبرمون منه تبرماً شديداً، إلا أن الخطة تنحو لجمع هذه التقييمات ومقارنتها لاحقاً بطبخ صفية «المائع»، إثباتاً لقدراتي البيتية مقارنة بقدرات صفيتهم الثمينة.
الحق والحقيقة أنني أغار كثيراً من موقع صفية في قلوبهم جميعاً، تدحرجت الأيام دون شعور مني، وأوغلت حب وتقدير صفية في قلوبنا جميعاً، ويبدو أنها احتلت مكاناً أكبر مما كنت أتصور عند الجميع، خصوصاً الصغيرة ياسمينة التي تربت على يديها وتطبعت بطباعها وتشربت حتى تفضيلاتها الغذائية. تأكل ياسمينة كما تأكل صفية، وتتحدث معها لغتها، والآن تخطط الصغيرة لبعثتها تزامناً مع وقت مغادرة صفية للبلاد، كل حياة ياسمينة مخططة تطابقاً مع حياة صفية. غيرة تأكل قلبي بلا شك، ولكنّ حباً غامراً وامتناناً عظيماً رائقاً يسكن قلبي وكل العائلة لهذه الأخت والأم العظيمة التي وهبها الله لنا لتعتني بنا وتحبنا فيما الحياة تتسارع بنا إلى الأمام.
زمن كورونا المرعب مليء بالفكاهات الغريبة السريالية، مليء بفرص اكتشاف الذات، اكتشاف أعماقها الجادة كما اكتشاف نقائصها الخفيفة المضحكة. زمن كورونا زمن مراجعة البشرية بأكملها لوجوديتها، للمعنى العميق لإنسانيتها ولربما لأولوياتها كنوع كامل في هذه الحياة، وهو زمن خاص لي لمراجعة كل هذه الأشياء الخطرة المهمة كذلك كوني جزءاً من هذه البشرية، وكذلك هو فرصة للعودة إلى مواقع القوة في البيت، ولفرض هيمنتي حيث يجب أن تكون، ولاسترداد موقعي ونصب عَلَمي فوق قلوب الأعداء الأحبة. وما زالت الحرب قائمة، يا أنا يا أنت يا صفية..