تحميل إغلاق

بصل وبيض

في صراعنا البشري الحالي من أجل الوجود، تظهر مشاكل غريبة طريفة، لا تبرير منطقي واضح لظهورها. كما تظهر مشاكل مرعبة عميقة، أسبابها مفهومة، ودوافعها متوقعة توقعا بعيدا خياليا، كما لو أننا نشاهد فيلما مستقبليا قاتما، نتوقع أحداثه من خلال فهمنا لطبائعنا البشرية وتوقعنا لظهور أسوأ جوانبها في أوقات الشدة.

أنظر في الأحداث حولي، أتخيل نفسي فيما لو اشتدت الظروف وتحول الصراع من أجل البقاء إلى حرب شوارع، هل سأحافظ على القيم والمفاهيم الأخلاقية التي ما زلت أتكلم حولها في مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل سأحافظ على مفهوم التعاضد الإنساني الذي أكتب حوله مرارا وتكرارا أم أن غريزة الدفاع عن نفسي وعن أولادي ستأخذ مكانها الطبيعي لتحولني من كائن إلى كائن آخر، لتنقلني من منظومة أخلاقية إلى أخرى مختلفة تماما؟

أشعر أحيانا بأنني أتكلم من منطلق مرفه، لم يختبر بعد تهديدا حقيقيا، وأشعر أحايين أخرى أن هذا “المنطق المرفه” هو اختباري الحقيقي، هو كل المتبقي من إنسانيتنا. هل سننجح في التشبث به أم سنتركه على قارعة الطريق عند أول منعطف حاد؟

من طرائف المشاكل الناتجة عن أزمتنا الوجودية الحالية هي طرفة تهافت الناس على سلع معينة في المجتمعات المختلفة، دون أن يبدو هناك تبريرا واضحا لهذا التهافت على هذه السلع تحديدا. هل هناك الإنسان “صفر” الذي بدأ يشتري كميات من هذه السلعة ويثير فزع الناس حول اختفائها من السوق مما نقل مخاوفه للآلاف ثم الملايين ممن يعيشون في مجتمعه؟ هل الجزع تجاه سلعة معينة هو وباء مثل فيروس كورونا ينتقل عبر التخالط وابتلاعنا لرذاذ غيرنا؟

في الكويت كانت هناك هائجة بصل، تهافت الناس على شرائه بشكل غير طبيعي حتى أصبح نافذا في معظم الجمعيات التعاونية وأسواق الخضار والفواكه. لم يكن منطقيا هذا التهافت مطلقا، فالجمعيات التعاونية وأسواق الطعام مليئة بالخير الوفير، والحكومة الكويتية تبقى تطمئن الناس لوفرة الطعام ولوصوله لكل محتاج.

إلا أن هائجة البصل هذه لا تريد أن تتوقف، حتى بدأت أكياس البصل تنفذ من الأسواق في ساعات الصباح الأولى، في إشارة إلى فعل غير مفهوم مطلقا؛ فأولا، يمكن الطبخ بلا بصل، لن نموت جوعا إذا ما لم يدخل هذا المكون في طعامنا؛ وثانيا، لن تكون هناك استفادة فعلية من تكديسه، فآجلا أم عاجلا سيتعفن هذا البصل، فلا من يكدسه سيأكله ولا ترك غيره يستفيد منه.

نسمع كذلك عن هائجة شراء بيض في السعودية، ومثلها لمحارم الحمام في بريطانيا وأميركا، وتلك حقيقة هي الظاهرة غير المفهومة مطلقا. ربما يمكن فهم الخوف تجاه نفاذ البيض والبصل من بعد معين، لكن الخوف من نفاذ محارم الحمام، أي منطق يمكن أن يبرره؟

ببساطة، إذا كانت مهمة محارم الحمام حيوية جدا في هذه المرحلة الوجودية أليس من الممكن أن تقدم ذات المهمة كذلك المحارم العادية؟ أي جزع نفسي جعل الناس تعتقد أنها تحتاج لتخزين هذه المحارم تحسبا لانقراض البشر ونهاية العالم؟

في مقال منشور على صفحة سي أن بي سي في 11 مارس، تشير الكاتبة كلوي تايلور إلى أن حالة الشراء من أجل التكديس تلك قد تكون نوع من أنواع المعالجة الشرائية التي نتحكم من خلالها بحالتنا النفسية وذلك نقلا عن المختص في علم النفس الاستهلاكي في جامعة الفنون في لندن بول مارسدن. فهذه الحالة، طبقا لتحليله، هي محاولة لإظهار شيء من التحكم في عالم لا تحكم لنا على أي من أوضاعه.

يقول مارسدن كذلك إن هذه الحالة تشبع ثلاث احتياجات نفسية أساسية: الاحتياج للاستقلال أو التحكم، الاحتياج للتواصل بالآخرين والتشابه معهم وبالتالي إتيان ذات الفعل الذي يأتون، ثم الاحتياج لإظهار الكفاءة وبالتالي إشعار النفس بأننا “متسوقون أذكياء.”.

تنقل تيلور كذلك على لسان ساندر فان دير ليندن، وهو أستاذ مساعد في علم النفس الاجتماعي في جامعة كامبريدج، أن هناك حالة من “عدوى الخوف” تسري في المجتمع وتصيب الناس خصوصا حين تكون أقوال مؤسسة الدولة متضاربة بهذا الشأن. “حين يكون الناس متوترين تعوق عقلانيتهم،” يقول فان دير ليندن، “لذا هم ينظرون إلى ما يفعله الآخرون. إذا ما كان الآخرون يكدسون الأشياء، سيقودك ذلك لإتيان ذات الفعل”.

يذهب المقال باتجاه تبيان أسباب قليلة أخرى كلها تدور حول سيكولوجية البشر في أوقات المحن، وكيف أنهم ينظرون إلى بعضهم البعض، وينظرون إلى تاريخهم البشري، وينظرون إلى تجاربهم السابقة في محاولة منهم لحماية أنفسهم وبقائهم، ولتوفير ما يحتاجون في أوقات الأزمات، وفي محاولة لإظهار بعض من التحكم في وقت لا تحكم لهم في مجرياته ومعطياته مطلقا.

في بداية الأزمة، بدأ الناس في الكويت يتهافتون على محطات البنزين لملء سياراتهم، في ظاهرة بدت غريبة جدا، فالتعليمات أتت دافعة إلى البقاء في البيت والانعزال التام، لم سيحتاج الناس لسيارات مليئة بالبنزين؟ ربما يعود ذلك لما وصفه بيتر نويل موري، عضو الاتحاد النفسي الأميركي وجمعية علم النفس الاستهلاكي، كما تنقل عنه كاتبة المقال، أنه عملية ربط بتجارب سابقة.

ينهال الكويتيون على محطات البنزين لربما لربطهم الكارثة الحالية بكارثة الغزو العراقي في 1990. يقول موري إن العالم يتصرف اليوم بهذه الطريقة تجاه فيروس كورونا ربما ربطا بكوارث وبائية أخرى ملحة في ذاكرتنا التاريخية، مثل تلك التي وقعت في 1918 مع الإنفلونزا الإسبانية والتي قتلت ما يقارب 50 مليون إنسان حول العالم طبقا للمقال.

هذه المناحي السلوكية ستنتهي بانتهاء الكارثة الوبائية وستظهر مجددا بوقوع كارثة بشرية أخرى قادمة في المستقبل لا محالة. تصنع هذه السلوكيات مشاكل نتائجها قد تنطوي على بعض الخطورة، إلا أن لها مظهر كوميدي وتداعيات يمكن التغلب عليها سريعا.

لكن ماذا عن المشاكل المرعبة العميقة؟ ماذا عن نظرتنا تجاه بعضنا البعض وكأننا مصادر خطر متنقلة؟ ماذا عن “أنا ومن بعدي الطوفان”، هذا المفهوم الذي يصحو من موته مع كل كارثة بشرية كأنه “زومبي” بشع لا يمكن القضاء عليه؟ إذا واتت الجرأة النفسية، لربما يكون ذلك موضوع مقال قادم.

اترك تعليقاً