تحميل إغلاق

عمو ماجد

عمو ماجد

كان عمو ماجد جزءاً لا يتجزأ، منذ أن وعيت على هذه الحياة، من مكتب والدي للمحاماة ومن حياتنا عموماً. عمو ماجد رجل فلسطيني أردني، تزوج من كويتية وأنجب من الأبناء خمسة، ولدين وثلاث بنات، وعاش جل حياته في الكويت. علمت من والدي حين كبرت أن عمو ماجد يسبق كل وعي لي في هذه الدنيا، فعمو ماجد كان يزامل والدي في المكتب الذي احتضنهما بداية عملهما، والدي محام ناشئ وعمو ماجد معقب مبتدئ، لتنشأ بينهما علاقة صداقة وثقة، ولينتقل لاحقاً إلى مكتب والدي الذي بدأ صغيراً بغرفة وصالة، ووصل الآن ليكون «مجموعة طاهر القانونية»، التي تضم ثلاثة إخوة وأبناء عمومة، وتُخرج العشرات من المحامين الناشئين سنوياً. حكاية عصامية لكل أبطالها وبكل أبعادها.
قبل أيام توفى عمو ماجد. حين اشتد مرضه، وكان زائراً في الأردن، أوصى أن يعود للكويت ليموت ويدفن فيها. حياة عمو ماجد كانت مثقلة بالأحزان، فقد توفي ابن له وهو بعد في سنوات الطفولة في حادث سيارة، ثم توفيت ابنته في حادث سيارة كذلك قبل سنة تقريباً. حين عزيت عمو ماجد في ابنته بعد أيام فقط من وفاتها شكرني وابتسم، لا أذكره سوى مبتسم، لا يحمل همومه أحد، قليل الكلام، رائق الوجه دائماً، أكاد أراه الآن متجولاً في أنحاء مكتب والدي محملاً بالملفات، عمو ماجد دوماً محمل بالملفات، زرقاء وخضراء، كانت تحمل اسم والدي في البداية، وهي تحمل اسم مجموعة طاهر الآن، لكنها كلها دائماً تحمل بصماته وعلمه ومجهوده. قبل أن أستكمل دراساتي العليا كنت بالنسبة لعمو ماجد «حبيبتي ابتهال» وما إن عدت من السفر حتى أصبحت «حبيبتي الدكتورة». كنت أترجاه كلما التقيته وانحنيت أقبل جبينه أن «لا تناديني سوى باسمي، عمو»، لكنه يأبى إلا أن يناديني بلقبي، كأنه يذكرني بفخره به مع كل مناداة. عمو ماجد الذي اشترى لي كميات لا تحصى من الآيس كريم.. الذي كان يقلني من مدرستي أحايين كثيرة إذا ا تعطل والدي في العمل.. الذي تابع قضاياي كلها حين كبرت وأصبحت جلابة مشاكل، عمو ماجد غير موجود الآن، لتصبح الدنيا غريبة من بعده.
تقول لي ابنته حنان إن عمو ماجد أتى على ذكر كل عاملي المكتب في أواخر أيامه، حتى هؤلاء الذين انتقلوا إلى رحمة الله منذ سنوات عديدة: عمو ربيع، وعمو ركابي، وغيرهما. من على سرير المرض نادى عمو ماجد ابنه وابنته المتوفين، نادى أصدقاء عمره وزملاءه، تنقل بين ذكراهم جميعاً، لكنه ظل يطلب والدي، يطلب رفيق عمره، ليسافر له والدي إلى الأردن إبان مرضه، وليكون أحد أواخر من زاروه قبل وفاته هنا في الكويت. الأستاذ ماجد علي عودة، رئيس قسم المعقبين في مجموعة طاهر القانونية لما يزيد على الخمسين عاماً، رجل القانون المحنك، عمو ماجد، صديق والدي ورفيق دربه ووالدنا جميعاً نحن أبناء رفيقه، عمو ماجد لم يعد موجوداً في الدنيا، فكيف تستقيم الحياة الآن؟
لم يتجنس أبناء عمو ماجد في الكويت؛ لأن المرأة في الكويت لا تجنّس أبناءها على جنسيتها إلا في حال تطلقت طلاقاً بائناً أو توفي عنها زوجها، وزوجة عمو ماجد رحلت عنه وعن الأبناء والدنيا منذ زمن طويل. بقي هؤلاء الأبناء معلقين بين وطنين: الأردن الذي يحملون جنسيته، والكويت التي يحملون روحها ولهجتها وطبائعها والتي كانت كل حياتهم فيها. الأبناء للأب، المنطق القديم يقول ذلك، والتقاليد تقول ذلك، والقوانين «المدنية» المستوحاة من القراءات الشرعية تقول ذلك، رغم أنه من غير الواضح ما علاقة الجنسية كمفهوم مدني غير ديني بالنسب إلى الأب كمفهوم شرعي، فالمواطنة والجنسية أصلاً من المفاهيم المدنية الحديثة التي لا علاقة لها بالشرع، فلم تربطا به حين يتعلق الموضوع بالمرأة؟ لأنه عالم ذكوري، يرث فيه الرجل كل ما يستحق وما لا يستحق، وتتبع فيه المرأة من يستحق ومن لا يستحق، هو قانون الحياة الذي لا يبدو أنه سيتغير في شرقنا الأوسط في أي وقت قريب.
عمو ماجد رحل وترك الولد والابنتين الباقيتين في غير الأمان الكامل الذي كان يريد ويتمنى، ترك فراغاً غائراً في بقعة مكتبه التي لن يملأها أحد، ترك ثقوباً سوداء في قلوبنا لن يطببها دواء. رحمك الله عمو ماجد وأحسن مثواك.

اترك تعليقاً