تحميل إغلاق

في القداسة والتفكير النقدي

في القداسة والتفكير النقدي

لربما أكثر ما يعيق التفكير النقدي العلمي هو تقديس المادة محل التفكير والنقد، أياً كانت هذه المادة. إذا كنت تقدس وطنك، لن تستطيع أن تحلل إشكالياته وتنقد حكوماته التي تديره. إذا كنت تقدس أسرتك لن تتقبل أي نقد حول شخوصها أو منهجيتهم في الحياة. إذا كنت تقدس نصوصك الدينية فلن تستطيع أن تستقبل أي قراءة مخالفة لتلك التقليدية التي كبرت أنت عليها واستقبلت وفهمت هذه النصوص من خلالها. ولكي تفكر بشكل منطقي وعميق ومحايد، لا بد أن تضع مفهوم القداسة جانباً، إلى حين. يقول دكتور فراس السواح في إحدى مقابلاته، إن «نزع القداسة عن النص أسهل وسيلة لفهمه، ما دمت تحت سلطة قداسة النص، لن تستطيع أن تفهمه.
تنزع عنه القداسة لكي تستطيع أن تدرسه، ولكي تكون حراً في دراسته». يستكمل الدكتور لاحقاً بقول معناه أنه يمكن العودة للقداسة لاحقاً، أي يمكن العودة للحالة التعبدية مصحوبة بالقداسة المطلوبة بالتأكيد، إلا أنه في لحظة الدراسة والتفكير والنقد لا بد من إخلاء العقل من القداسة حتى يتوافر المكان والمقدرة على تفكيك النص وفهمه.
تصعب على مجتمعاتنا المغرقة في تقديس كل معتنقاتها وكل معتقداتها، وكل أوطانها، وأديانها، وطوائفها، وأسرها، وقبائلها، وأسماء عائلاتها، بل وحتى فرقها الرياضية، أن تتخلى ولو مؤقتاً عن هذا التقديس العميق. يصعب ذلك لربما على كل المجتمعات الإنسانية، إلا أنه يشتد في صعوبته على مجتمعاتنا الشرق أوسطية تحديداً لاعتناقها المتشدد لفكرة الحق الأوحد، سواء كان دينياً أو وطنياً أو أسرياً أو غيرها. هي مجتمعات، ومثلها بعدد أقل بعض المجتمعات الغربية الحالية والسابقة، غير قادرة على تبني مفهوم «رأيي على صواب يحتمل الخطأ»، الذي هو المفهوم الذي يترك الباب موارباً للاختلاف ويخفف من حدة ردود فعل البشر بعضهم تجاه بعض. هي مجتمعات تموت من أجل «حقها الأوحد» الذي لا تتناقش حوله، والذي كما ذكرت آنفاً، قد يكون حقاً دينياً، وهذا هو الشائع خصوصاً في عالمنا الشرق أوسطي؛ أو حقاً وطنياً، مثل مساندة وطنك ظالماً أو مظلوماً، وهذه فكرة منتهجة بقوة في شرقنا كما وبين الشعب الأمريكي على سبيل المثال؛ أو حقاً عرقياً، كأن تأتي كل ما تستطيع للمحافظة على امتدادك الذي هو أعلى وأفضل من امتدادات بقية البشرية، الذي أفضل الأمثلة عليه هو ما حصل مع ومن الدولة النازية.

في الواقع، يقول بعض المفكرين إن مفهوم الوطنية الحديث لربما أتى ليأخذ مكان مفهوم التدين؛ ليحل الشعور بالولاء للوطن وبقداسته وبمبدئية الموت من أجله محل الشعور بالولاء للدين وبقداسته وبمبدئية الموت من أجله، بعد أن تراجع الحس الديني مع بدايات القرن العشرين.
بالطبع، عاد هذا الحس الديني ليتنامى مع بدايات القرن الحادي والعشرين، وعلت طبول الحرب بين الإخلاص للدين والإخلاص للوطن، وتزايد عدد الأشخاص المبررين انتهاج العنف والانحدار الأخلاقي دفاعاً عن السلام والأخلاق وكافة المقدسات التي يجدون في قداستها تبريراً كافياً لأي انحدار في الدفاع عنها، حالة تمثل مرض التناقض البشري الذي نعاني ونعيش.
يبقى أنه من المؤكد أننا، كمجتمعات بشرية، لا نستطيع أن نحيا بلا «مقدسات» أياً كان نوعها، فالحاجة إلى الشعور بالانتماء لهوية وبالإيمان بحق وحقيقة، والتي كلها حاجات بشرية لربما لها منابع بيولوجية، سرعان ما تحول هذه الهوية والحق والحقيقة النسبيين جميعاً طبقاً للمجتمع والمكان والزمان، إلى مفاهيم مقدسة عند أصحابها مؤكدة ومثبتة في كل زمان ومكان. هذا التحول الذي يتشكل طبيعياً وغرائزياً وبصورة متنامية مستمرة، يجعل من الحياد والموضوعية تجاه هذه المفاهيم أقرب للمستحيل. وعليه، وحتى نضمن صناعة مجتمعات أكثر أمناً واستقراراً، لا بد من تدريب الناس، لربما كما هو حاصل في بعض المجتمعات الغربية، على التخلي المؤقت عن فكرة قداسة المفهوم والتعامل معه وقتياً على أنه قابل للتفكيك والتشكيك، ليس فقط في سبيل الوصول لفهم أفضل وأعمق له، ولكن كذلك ضماناً للأمن والاستقرار المجتمعي بين الناس.
فإذا ما تم تطوير هذه المهارة النقدية بشكل عام بين الشعب، فعلى أقل تقدير، من لا يستطيع ولا يتقبل أن يمارس هذه المهارة النقدية ليحقق درجة مقبولة من الحياد بتخليه المؤقت عن القداسة، فهو قادر على تحمل الآخرين الذين يفعلون، ومتقبل لطبيعية هذا التخلي المؤقت وهذه الحياة العلمية وهذا التفكيك الموضوعي للمفهوم دون أن يستشعر الحاجة للدفاع عن المقدسات والموت (أو القتل) دونها.
سنبقى نعيش في الماضي ما بقينا نفزع من فكرة موضوعية التفكر والنقد، وما بقينا غير قادرين على التفكير بشكل مختلف عما اعتدنا وسمعنا، وسنبقى نتقاتل ونتصارع ما بقيت فكرة الحق الأوحد مهيمنة، فكرة لا تقبل النقد أو التفكيك أو حتى مجرد التساؤل. سنبقى ندور في دوائر مفرغة قاتلة ما بقينا نؤمن بالعنف والانحدار الأخلاقي وسيلة للدفاع عن «الحقيقة» والأخلاق.
فلو انحدرنا كلنا في سبيل الفكرة، ماذا سيبقى من أخلاقيتها التي استبحناها في كل لحظة دفاعاً عنها ومحافظة عليها؟

اترك تعليقاً