عمران
لا بد أن نتذكر أن إعلان زين هو دعاية فنية لا بيان سياسي، ولو كان بياناً أو مقطعاً سياسياً مصوراً لكانت صورة عمران خارجة عن السياق وتحمل مضامين مرفوضة، أما في الدعاية فأتت على المحك ولمست أعمق الجراح، والأهم أنها أثارت غضبتنا التي تكاد تخمد تحت رماد مضي الأيام.
مثل النار في الهشيم ينتشر الغضب في الصفوف العربية، توهجه نظرية المؤامرة وتنعشه اصطفافات داخلية عميقة تضبب الرؤية صانعة من كل موقف عداوة ومن كل حدث مؤامرة. دعاية زين الأخيرة التي تؤسس لفكرة المغفرة والسلام ومحاربة العنف بالحب أثارت الكثير من اللغط بسبب ظهور صورة الطفل عمران فيها، بالطبع كل عمل فني كبير بحجم دعايات زين المنتظرة يُتوقع أن يثير الجدل والنقاش حول الفحوى والتنفيذ والرسالة، خصوصاً عندما تأتي هذه الرسالة على الجرح الغائر للإرهاب المتفشي، هذا الإرهاب الذي لم ينجُ حتى هو بخرابه وموته من الانقسام الطائفي، فأصبح الشارع يتمسك بالضحايا، كل يريدهم مضمومين لطائفته ومشمولين في صفه.
ومع ذلك ورغم العلم بأن كل قضايا أمتنا المنكوبة أصبحت مرجعيتها طائفية، فإن رد الفعل تجاه الدعاية فاق التوقعات في صخبه وغضبه وبكل أسف طائفيته. هناك من رأى أن الدعاية ترمي إلى تصوير العنف في سورية على أنه عنف “داعشي” فقط، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك ليتصور أن الدعاية ترمي إلى تبرئة النظام الحاكم في سورية، وهناك من تصور أن الموضوع مخطط “صفوي”، خصوصاً في تزامنه مع حلقة “سيلفي” المعنونة “زواج ليبرالي”، والذي يهدف إلى تحسين صورة الشيعة والرمي بالآثام على الصف السني، وهناك من ذهب بتعابيره وكلماته إلى أبعاد أكثر مرضية، مبيناً مدى عمق جراحنا وفداحة انقسامنا وغور ارتيابنا حتى بتنا نرى عدواً لنا ومتآمراً علينا في كل شيء، حتى في رسالة حب وسلام.
أعتقد أن الدعاية، على عاطفيتها، أخفقت في أكثر من موقع. لم يكن تكرار كلمة “لنفجر” متناسقاً مع رسالة الدعاية كما لم يكن مشهد تفجير الفتى لنفسه موفقاً في تثبيت الصورة المسالمة المرجوة. إعادة صياغة مشهد عمران هي سلاح ذو حدين، من جانب الرسالة قوية جداً، ومن آخر الرسالة مكسورة بتثبيتها لمفهوم العنف، ذات المفهوم الذي تحاول الدعاية محاربته، وهذا مأزق كل عمل فني يقدم رسالة هادفة حول موضوع حساس: هل هو يحاربه أم لا شعورياً يروج له؟ إلا أنه يحسب للدعاية رسالتها القوية جداً في وضع الحب أمام العنف، وفي مقاومة الإرهاب بالسلام والمحبة والغفران، خصوصاً أن الدعاية تشمل ظهوراً للضحايا الحقيقيين لأعمال العنف، والذين من خلال ظهورهم يرسلون رسالة محبة وغفران ليس للمجرم ولكن للعالم.
ولربما لم تنتم حادثة عمران إلى بقية الأحداث، فالأحداث المذكورة أغلبها أحداث تفجير فردية في حين أن حادثة عمران هي حادثة قصف ممنهجة، إلا أنني اعتقدت حقيقة أن الدعاية تدين ضمنياً النظام السوري ولا تبرئه حين شملت القصف البشع ضمن الأعمال الإرهابية. كما أن المفجر نفسه لم يبدُ ممثلاً لـ”داعش” تحديداً ولا لأي جهة أخرى محددة، بل لفكرة الإرهاب بحد ذاتها، وذلك من واقع أن الدعاية تنتهي بالفنان حسين الجسمي ماداً يده ليصافح المفجر وليعفو هو وبقية الضحايا عنه، ولا أظن أن رسالة الدعاية، لمن يعتقدها ترمي فقط للعنف “الداعشي”، هي الصفح عن “داعش” أو وضع يدنا بيد أعضاء هذه الجماعة. الرسالة بدت واضحة، العنف يجبه السلام، والكره يغسله الحب، والذنب يطهره العفو، ولا يمكن أن تكون هذه رسالة إلى “داعش” ولا إلى أفراده المنضمين إلى لوائه، هي رسالة عامة حول السلام والمحبة والمغفرة.
أرى عمران الصغير وإيلان الصغير، أحدهما ناجٍ والآخر ضحية، هما الوجهان الأجمل والأنسب لإرسال رسالة مثل هذه، ولو خلت الدعاية من الإشارة إلى الجرائم التي يرتكبها النظام السوري لأتت الرسالة ناقصة، وهي ناقصة فعلاً الآن في خلوها من إشارات إلى ضحايا بقية الأنظمة، ولكن من المفهوم، وإن لم يكن مبررا، عدم القدرة على الإشارة إلى ضحايا بقية هذه الأنظمة، الدعاية بإبرازها وجه عمران اتهمت بالطائفية، لنا أن نتخيل لو أنها شملت ضحايا العنف في اليمن مثلاً. والدعاية، ويا للأسى، لها خطوط حمراء في منطقتنا المنكوبة لا تستطيع تخطيها، لذا هي لا يمكن أن تظهر ضحايا عنف أنظمة أخرى محببة ومقربة. لذا، جاء اختيار عمران كالاختيار الأسلم، على ما أتصور، المجمع عليه الأغلبية الغالبة من شعوبنا الغاضبة، كرمز للعنف المنظم الممنهج وكإشارة إلى إرهاب الأنظمة كان لا بد من شمله ومن المعيب استقطاعه.
وفي النهاية لا بد أن نتذكر أن هذه دعاية فنية وليست بيانا سياسيا، فلو كانت بياناً أو مقطعاً سياسياً مصوراً لكانت صورة عمران خارجة عن السياق وتحمل مضامين مرفوضة، أما في الدعاية فأتت على المحك ولمست أعمق الجراح، والأهم أنها أثارت غضبتنا التي تكاد تخمد تحت رماد مضي الأيام، لتذكرنا بجرائم نظام مجاور ولتحركنا لنغضب ونأسى من أجل الأطفال ولنحب ونتسامح حتى نقضي على الطائفية التي خلقت هذه الجرائم أصلاً ومن البداية.
ننقد الدعاية، نمحصها فنياً، نشير إلى أخطائها نعم، لكن نحملها ذنوب أمتنا وتقصيرنا وتضارب عنصرياتنا فهذا كثير. دعاية ثوان لن تغير حقيقة المشاهد الجرائمية المتكررة التي تصلنا لأفعال النظام السوري، بل إن فعلت شيئا، هي وضحت الصورة وأثارت حواراً يجب ألا يتوقف حول ما يحدث هناك من بشاعة وتطهير عرقي. كما أن تورط “داعش”، لمن رآه في الدعاية، في العنف السوري عموماً وليس تحديداً حادثة عمران، هو حقيقة، فسورية معلقة بين مطرقة النظام وسندان المتطرفين، ومن يرفض الاعتراف بجرائم الإرهابيين في سورية هو كمن يرفض الاعتراف بجرائم نظامها تغييباً بل طائفية.
الغضب المتنامي عن حجم الموقف يضعفه، والانفعال الذي يفوق الحدث يخسر القضية جديتها ويحول موضوعها مادة للسخرية، وهذا آخر ما نريده لمآسينا العربية المزمنة. الآن وبعد كل الذي كان، دعاية زين يجب ألا تزال، وصورة عمران يجب أن تواجهنا كل يوم، وتذكرنا بجرائم نسكت نحن عليها كل يوم.