خيال يفوق الاحتمال
في متجر فاخر للعطور وأدوات التجميل في أحد مولات الكويت وقفت أنا مستندة إلى طاولة رخامية طويلة أنظر لليد الصغيرة المعروقة تلف هدية بخفة ورشاقة. بدت السيدة الفلبينية التي كانت تقدم هذه الخدمة في منتصف خمسينياتها، لربما هو ليس عمرها الحقيقي ولكنه عمر الشقاء مخطوطاً على وجهها ويديها، هي صغيرة الحجم على شاكلة التكوين الجيني لمعظم السيدات الفلبينيات، شعرها الفاحم ينسدل على كتفيها وقد بزغت على جنبي جبهتها خصلات بيضاء كتلك التي تهاجم جبهتي بلا رحمة. نظرت لوجهها الرقيق، بدت تجاعيده تزيدها جمالاً، تتركها حقيقية، إنسانة تحيا الحياة بكل جنباتها الشاقة وتحدياتها المؤلمة.
“كيف تجدين الحياة في الكويت؟” سألتها أنا. رفعت لي رأساً مستغرباً، ونظرت في عيني وكأنها تستشف الغرض خلف سؤالي، خفضت عينيها وتنهدت “الحياة جيدة يا سيدتي، ها نحن نعيش”. بادرتها “أتمنى أن تكوني كذلك بحق، أتمنى أن تكوني مرتاحة عندنا”. ألقت على وجهي نظرة طويلة ثم انطلقت “لي في الكويت ست وعشرون سنة سيدتي، حياة كاملة. أحياناً يؤلمني قلبي جداً شوقاً لبلدي وأهلي، ولكنها الظروف. الحياة هنا طيبة ولكنني أفكر في بيتي وأهلي طوال الوقت، كم أشتاق أن أكون معهم”. “نعم أتفهم ذلك” قلت لها “لا يمكن تعويض الوطن”. أخبرتها أنني أستشعر معاناتها وأنني أعرف أن الظروف تغيرت في السنوات الأخيرة في الكويت. “نعم سيدتي”، قالتها بتنهيدة “قبل أيام مرض أخي، فذهبنا به للمستشفى ودفعنا 80 ديناراً، تخيلي سيدتي، راتب شهر ويزيد”. ارتجفت يداي وقد صفعني الرقم المذكور، للتو صرفت وصحبتي ضعفه في المتجر، ترى بم فكرت هذه السيدة الرقيقة وهي تضرب أرقام مشترياتنا التي تعادل راتبين لها أو أكثر على جهاز الكي نت؟ شاركتها ألمها “نعم أعرف، أدري أن الرعاية الصحية أصبحت هماً، لكن تأكدي أننا نشعر ونتكلم وندافع”. هزت السيدة الرقيقة رأسها بخفة كأنها تتساءل عن فائدة شعوري وكلامي ودفاعي لتباغتني بعدها بسؤال مباشر “أنت كويتية سيدتي؟” أجبتها بنعم، فقالت مستغربة وكأنها تسر لنفسها “كل سنوات عملي، لم يسألني أحد كيف هي حياتي هنا؟”.
في هذه اللحظة تخيلت هذه السيدة “هناك”، في مزرعة ما، مدينة ما، بيت صغير محشور بين بيوت كثيرة ما. ترى كيف كانت اللحظات الأخيرة قبل مغادرتها لوطنها؟ كيف ودعت أهلها، ما كانت آخر كلماتها لزوجها؟ كيف قبّلت أبناءها القبلات الأخيرة التي لن تتكرر لربما إلى ما بعد سنوات؟ الخيال يفوق الاحتمال. بلدنا الصغير مليء بالسيدات الفلبينيات، في بيوتنا، في متاجرنا، في شركاتنا، في حمامات مولاتنا الفارهة، تتكرر هياكلهن الصغيرة وشعورهن الفاحمة، تتردد لكنتهن التي أصبحت مألوفة ولربما مفهومة للكثيرين منا. إلا أننا ومع هذا التكرار المستمر لوجودهن “الجانبي”، حيث يحيين على طرف حيواتنا الفارهة، نعاملهن كأنهن لعب بلاستيكية، كأنهن نسخ مكررة من ذات الكائن، وننسى أن خلف كل جسد رقيق منهك ووجه مستدير مشدود العينين، والتي نراها كلها متشابهة لربما بعين عنصرياتنا، هناك قصص طويلة ومختلفة ومعقدة التفاصيل. كل سيدة من هؤلاء السيدات كانت ذات يوم طفلة، كبرت في الغالب في بيت فقير. كل واحدة منهن كانت تذهب للمدرسة محملة بأحلامها وآمالها التي ستتحطم لاحقاً على عتبات الفقر والحاجة. ذات زمن كان لكل منهن زوج في الغالب ستخسره ويخسرها بسبب سفرها البارد الطويل، لكل واحدة منهن أطفال سيتوقفون عن مناداتها بماما، ماما الآن هي الجدة أو الخالة أو العمة. كل سيدة من هؤلاء ستخسر كل شيء عندما تغادر: الزوج والأهل والأصدقاء والأحلام والآمال والعمر والأبناء، ثمن باهظ من أجل هدف غائم.
استأذنتني: “هل لي أن أضمك سيدتي؟” فسارعت أنا أسبقها بضمها، لأفلت منها سريعاً راكضة منها ومن قصتها. لا أتذكر أنني سألتها عن اسمها، فقط سارعت الى سيارتي وأنا أبتلع هواءً انحشر في بلعومي، وكعادتي، أخذني خيالي لقصة طويلة. ماذا لو أن الدنيا، بضربة حظ جينية، أبدلت أماكننا فكنت أنا هي وهي أنا؟ كيف كنت سأغادر بلدي للعمل خارجه؟ كيف ستكون القبلة الأخيرة أطبعها على يد والدي وخدّ أمي؟ ماذا كنت لأقول لزوجي؟ كيف كنت لأُفهم أبنائي أنني سأغادرهم، ليس لأيام أو أسابيع أو شهور، بل لسنوات، سأربي صغاراً غيرهم وأعمل في بلد غير بلدهم وأتكلم بحديث غير حديثهم، هل كانوا ليغفروا لي؟ كنت سأبكي بكل تأكيد، لكنني لربما كنت لأبكي فراق زوجي أكثر من أبنائي. داهمتني الضحكات، تذكرت كيف يتهمني أولادي دوماً بأنني أضعهم في موقع متأخر بعد والدهم وكيف أن اتهامهم هذا هو صحيح في الواقع. لكن ماذا كان سيحدث لو أتاني خبر زواج زوجي بعد أن فرقتنا السنوات؟ لا، لن يحدث، هو رجل صعب التأقلم، لا يستطيع الاعتياد على الغرباء بسهولة. هل كانت صغيرتي ياسمين ستنساني؟ بالتأكيد ستنسى شكلي، هل كانت لتعتبرني سُلطة في حياتها؟ أنا لست سلطة الآن، كيف يمكن أن أكون كذلك وأنا بعيدة؟ داهمت نفسي وأنا أضحك بصوت عال. اكتشفت أنني ألّفت قصة وعشتها مسافة الثلاثين دقيقة من السالمية لبيتي. توقف الخيال فور وصولي حيث عدت سريعاً لحياتي آمنة، وتركت السيدة الرقيقة لحياة معقدة مهددة، ذاك قدرها وهذا قدري.
ليس في هذه الحياة عدل كثير، العدل عسير على التحقق، ما هو سهل التحقيق هي الرحمة، فإذا ما كنا لا نستطيع أن نقدم العدالة ونغير الأقدار، فلنقدم الرحمة ونغير وجه الألم. سؤال، لمسة يد، ابتسامة حقيقية، لربما تذكر المغتربين المحروقة قلوبهم بالابتسامات البعيدة والضحكات الماضية والدفء الذي كان.