تحميل إغلاق

فينوس

فينوس

في جلسة أصبحت نادرة، حيث تأخذني مشاغلي الى أماكن وواجبات تبعدني عن البيت والأبناء وحيث يأخذ ابني البكر شبابه الى عوالم وأشخاص مختلفين، تحدثنا أنا وهذا الشاب المميز، في اللحظات القليلة التي سرقناها للحوار، عن الموجة اللغوية الجديدة في الولايات المتحدة والتي تهدف لصنع ضمير موحد جديد لا يفرق بين ذكر وأنثى، مثال على ذلك ضمير ze المقترح ليحل محل she و he. كانت لابني نظرة سلبية للموضوع، حيث وجد القصة كلها ذات مبالغات سخيفة، وحيث تطرق الى التوجهات العنيفة التي صاحبت هذه الحملة اللغوية التغييرية.
قاد الحوار الى آخر حول مبحث علمي جديد نوعاً ما وعلى قدر كبير من الأهمية والذي يدور حول موضوع مدى صلاحية وعلمية التقسيم الأنوثي والذكوري للجنس البشري. وعلى الرغم من فارق السن والجيل وعلى الرغم من ثورية ابني المعهودة، كنت أنا على الجانب الثوري الفكري هذه المرة، حيث أخبرته أن هناك أبحاثا فلسفية كثيرة تستند إلى مباحث علمية جديدة ومبتدئة والتي تناقش مدى واقعية وحقيقية هذا التقسيم الجنسي ومدى تأثيره العام على جندرية المجتمع. يرى العديد من النقاد والفلاسفة النسويين الحاليين أن التقسيم الذكوري والأنوثي هو تقسيم ساذج في الواقع، حيث يشكل كل فرد منا، كل إنسان أو كل كيان بشري، حالة جنسية خاصة به، ذلك أن الأجساد البشرية متفردة تماماً، حتى أنه يمكن إعتبار كل إنسان تصنيف كائني جنسي مميز، فهناك أجساد بشرية متعددة الأجهزة الجنسية والتناسلية، أجساد مختلطة الهرمونات، أجساد ضامرة بعض الأجهزة وواضحة غيرها، أجساد تقف على حدود الجنسين أو خارج حدودهما أو بين حدودهما. إحدى المفكرات النسويات تكلمت مثلاً عن حقيقة أن الرحم والمبايض وبقية الأعضاء التكاثرية عند المرأة لا يتم استعمالها إلا في وقت الحمل والولادة، وعليه، فهي في الواقع، وفي غير أوقات «استعمالها»، غير كافية لخلق فاصل جنسي مبنية عليه فواصل جندرية متعددة بين البشر. وهكذا بدأت أبحاث علمية وفكرية وفلسفية جديدة تدرس مدى حقيقية وعلمية وعدالة هذه التقسيمة القديمة الساذجة والتي تحشر طيفا متفرعا ومتشعبا وممتدا من البشر في خانتين منفردتين. بقي ابني يعود بي الى لا وقعية هذا الحوار، والى الحقائق العلمية الثابتة حالياً من تقسيمات كروموزمية وتفاصيل جينية تفرق الذكر عن الأنثى، كما وأنه أكد، وهو ما أتفق معه فيه تماماً، على أن هذا التقسيم الجنسي هو أحد أهم عوامل التعريف البشرية بيننا، هو الإطار الأول والأهم الذي يعرف أي شخص من الوهلة الأولى، ولكن يبقى أن نقرر: هل هو الإطار الأصح؟
ثم أتى سؤال ابني والذي يقود الآن لكتابة هذا المقال: «ماما، لماذا كل هذا التعب والإصرار على هذه المباحث العلمية البعيدة والغريبة والبعيدة التصديق؟ قضية المرأة عادلة، لماذا تصرين على هذه المبالغات؟» كانت لحظة مشاعرية نادرة، إطلع فيها صغيري على مكنون قلبي كأنثى في عالم رجالي لا كأمه فقط. قلت له: حبيبي أنت لن تعرف في يوم معنى أن تكون إمرأة في هذا العالم، أن تكون حياتك صراعا مستمرا، فحواها قضية أزلية لا يبدو أن حلها النزيه قريب، أنت لا تعرف معنى أن تحيا وأنت تحمل إرثا ثقيلا، كل إمرأة فينا، كل جسد ووجه ويدين تشاهدهم، كلها محفور عليها بدبابيس الألم والمعاناة والاضطهاد والتمييز، تاريخ طويل مرير يجب أن نحمله جميعنا مهما تباينت حالاتنا الاقتصادية والاجتماعية. أنت لا تعرف معنى أن تمشي في الشارع فيحولك المجتمع وعقوله الى فريسة، لا تفهم كيف أن كل خروجة من البيت هي معركة صغيرة، معركة مع المعتقدات والمفاهيم والأحكام المعلبة الجاهزة. لن تدرك في يوم أن العبء عشرة أضعاف، وقسوة الأحكام عشرة أضعاف، والريبة عشرة أضعاف، والحكم بالفشل المسبق عشرة أضعاف لكل أنثى منا تخطو في دراستها أو في عملها أو في المجال العام. لن ترى هذا العالم بعيني في يوم يا صغيري، فأنت ذكر، أنت على أعلى سلم الحياة، لن تعرف طعم أن تكون حياتك مملوكة ومحكومة من غيرك طول العمر، من أب لزوج لخال لعم للذكر التالي في التراتبية العائلية والمجتمعية، ذكر، مهما كان بعيداً، سيبقى دوماً يعلوك قيمة وقدرة وسلطة. نعم، أنا شخصياً لست ضحية، الرجال في حياتي عظماء، هم كذلك باختيارهم لا بفرض من القانون المجتمعي والإنساني العادل عليهم، لم يتسلط علي أبي في يوم، ولم يشعرني بفرق زوجي في يوم، أعلم أنني أستطيع أن أخرج من زواجي كما دخلته في أي لحظة وبرضاي التام، ولكن القانون المدني والشرعي والمجتمعي في مجتمعاتنا يقولون إن لأبيك السلطة، وأنني أسيرته في زواجي وأن حكم إنهاء هذا الزواج هو حق مطلق له، وأن أولادي يتبعونه، وأن الوصاية عليهم له، وأننا كأسرة، لها سكن ومميزات وحقوق، لا يقوم كيانها سوى بوجوده، فدون الرجل، لا توجد أسرة فعلية. أنت لا تعرف يا حبيبي معنى أن يكون السيف مسلطاً حتى لو تأكدت أنه لن يهبط على رقبتك أبداً، أعلاك يبقى مسلطاً، كلما رفعت رأسك وجدته فوقك محمياً ومحكم الربط من كل أفراد مجتمعك. أنت لن تعرف معنى أن تكون ثانياً دائماً في الحياة يا صغيري حتى ولو أنصفك المحيطون بك، لن تعرف معنى أن تكون بشراً محملاً بشرف عائلتك كاملة، بسمعتها وتاريخها بل وأمنها ونجاحها المجتمعيين. لن تعرف في يوم طعم أن تحمل كل هذا العبء الحالي وكل هذا التاريخ الماضي وأنت معصوب العينين مربوط اليدين مقيد القدمين، كأنك أيقونة «فينوس وليندورف»، شكلها هو ما يحدد دورها في الحياة. لن تعرف يا صغيري وأتمنى الا تعرف وأن يكون أحد أدوارك الإنسانية هو أن تخفف عن أختيك طعم هذه المعرفة التي ستبلل ريقهما لا محالة. ليست هذه الأفكار مبالغات، يا فتاي الرائع، هي فقط خروج عن الإطار الذكوري المعتاد، كسر للقيود البيولوجية التي طالمها عطلت كسر كل القيود الأخرى، أعطني وأعطها فرصة، لربما هي المخرج الذي لا يريد أن يراه أحد.
انطلق صغيري يرد علي رداً رائعاً، فيه اتفاق وفيه اختلاف، فيه آراء وفلسفات ومعلومات علمية، فيه عناد الشباب وإصرارهم على معرفة كل شيء. رفعت عيناي الى عيني أبيه الجالس أمامي على مكتبه صامتاً، تلاقت أعيننا فابتسم بحب وابتسمت بحزن، نظرت ليده ترقد على علبة سجائره، قبلت راحة يده في مخيلتي وحمدت أقداري وبلعت عبرة وقفت في حنجرتي، نصيبي من الدنيا سرق نصيب أخريات، نلت فوق ما أستحق.

اترك تعليقاً