بفلوسه
أقامت مجموعة منارة الشبابية في الكويت نشاطاً قوياً حول العنف ضد المرأة، في أحد فعاليته تحدثت مجموعة من المختصات حول خطوات وعقبات إنشاء مركز لإيواء المعنفات، وكان من ضمن حديث إحداهن الإشارة إلى العنف الاقتصادي للمرأة، حيث علقت أنا بصفتي مديرة لفعالية الندوة بأن هذا العنف لربما هو الأخطر وذو الصور الأكثر غموضاً في مجتماعتنا. هذا وكان أن تحدثت الدكتورة رولا الحروب، عضو مجلس النواب الأردني والمذيعة والصحافية التي هي من مواليد الكويت، في حلقة نقاشية رتبت لها الدكتورة لبنى القاضي، رئيسة مركز دراسات وأبحاث المرأة في جامعة الكويت، حول موضوع تمكين المرأة، وقد أشارت الدكتورة حروب إلى عدد من إحصائيات الأمم المتحدة المهمة لفت نظري منها إحصاء يشير إلى أن المرأة في الواقع تنفق 90٪ من مدخولها على الأسرة، فيما ينفق الرجل من 30٪ إلى 40٪ من مدخوله في المجال ذاته، ما يعني أن تمكين المرأة سيرفع في الواقع من مستوى معيشة الأسرة بشكل ملحوظ.
في عارض التفكير في هاتين النقطتين، تتبلور فكرة العنف الاقتصادي الممارس ضد المرأة في عالمنا من حيث صورته في مجتمعاتنا التي هي الأشد عنفاً من حيث الدرجة، والأكثر خفوتاً وتنكراً من حيث الشكل والمظهر. العنف الاقتصادي ضد المرأة له أشكال بشعة متعارف عليها، سواء منعها فرص العمل المتساوية، أو حرمانها المكافأة أو الراتب المتساوي، أو تصعيب عملية تحصلها على التعليم، خصوصاً في درجاته الجامعية وما بعد، ما يحد فرصها وقدراتها لاحقاً، وما إلى ذلك من مظاهر واضحة، إلا أن العنف الاقتصادي في أبشع صوره له تركيبة فكرية خفية، ظاهرها رحيم وباطنها عذاب، يزرعها المجتمع، يؤكدها الرجال وتتباهي بها النساء أنفسهن، دون أدنى تقدير لنتاج هذه الفكرة الخطرة. يضع المجتمع بعاداته وتقاليده وتراثه الديني المسؤولية المادية بأكملها على الرجل، موهمين المرأة أن في هذا تكريماً لها ومحافظة على أنوثتها ووقاية لقيمتها «كدرة مكنونة»، في حين أن الحقيقة هي أن هذه المسؤولية المادية تأتي مع سلة من الواجبات والمسؤوليات المكثفة والمهينة في آن. تخلق فكرة مسؤولية الرجل وقوامته المادية برنامجاً اجتماعياً معووج الميزان، تنتظر فيه المرأة دائماً دون أن يكون لها قرار حقيقي أو فاعل في أحداثه ومعطياته. الرجل مسؤول مادياً، لذا هو الذي يختار العروس ويتقدم لخطبتها، وهو الذي له حق الطاعة، وهو صاحب القرار في نوعية المسكن ودرجة راحة العائلة الاقتصادية، هذا بخلاف الحقوق الجسدية المطلقة التي لا يجب على المرأة ردها، فهذا واجبها الشرعي، حسب الكثير من الآراء الفقهية، والذي استحقه الرجل بموجب عقد الزواج الذي دفع فيه مبلغاً وأعلن من خلاله مسؤوليته المادية المطلقة مدى الحياة، ومعها حقوق لا تعد ولا تحصى، أولها والتي تَجُب ما عداها، حق الطاعة المطلق.
إلا أن التأثير لا يتوقف عند حدود الحقوق والواجبات المجتمعية، بل إن نظام الإعالة هذا يؤثر على الحقوق الاقتصادية كافة للمرأة، فهو ما يبرر الرواتب الأقل، وهو ما يفسر نصف قيمة الميراث المستحق، وهو ما يجعل الآباء والأمهات في قلق دائم لتأمين الأولاد لا البنات، على اعتبار أن البنت لا بد وأن تجد مسؤولاً عنها يحميها ويغطيها اقتصادياً. كذلك، فإن هذا النظام يؤثر على التقييم العام لقدرات المرأة المالية وحكمتها في الإدارة الإقتصادية، ولذا نجد أن حظوظ النساء في عالم الاقتصاد أقل كثيراً. وعليه، فإن إقناع المرأة أن من صور تشريفها هو إعفاؤها من المسؤولية المادية فيه ليس فقط وضعها في موضعية المقود الذي يجب أن يتبع ويطيع مصدر التأمين المادي، بل إن فيه كذلك تكسيلاً لقدراتها وتعطيلاً لعقلها وتحبيطاً لشعورها باكتمالها وضرورة تحمل مسؤولية نفسها والقاصرين الذين في عنقها. إن إقناع المرأة بأنها «رعية» دائماً وليست راعياً مسؤولاً مادياً يضعها مباشرة في الصف الثاني أو الثالث من حيث التأثير، القيادة وصنع القرار، فمن المتعارف عليه منطقياً أن صاحب المسؤولية المادية هو صاحب القرار، حيث ينطبق ذلك على الأفراد والجماعات والمجتمعات، وحتى الدول كأكبر وحدات جماعية إنسانية. تكسيل قدرات المرأة وتحجيم موقعها في دور المنتظر للرعاية يضعفها نفسياً وجسدياً، صانعاً منها إنساناً مهزوزاً محتاجاً دوماً للحماية والقيادة، مما يضعها مباشرة وبشكل متوقع في الصف المتأخر عن الرجل الذي يستمتع بالقيادة، ببساطة، بفلوسه.
أحد أهم الإصلاحات الفكرية المطلوبة في داخل مجتمعاتنا النسائية هي تلك المتعلقة بالطريقة التي ننظر بها ونقيّم من خلالها أنفسنا، بالقيمة الإنسانية التي نعتقد استحقاقنا لها كبشر مستقلات متحررات قادرات على إعالة أنفسهن، وبالتالي قادرات على صنع قراراتهن بشكل مستقل. الوصاية المادية ليست أداة حماية، وليست مصدر راحة، وليست تكريماً، الوصاية المادية هي وصاية حياتية، يدفع من خلالها الرجل ليصبح صاحب القرار، وتستسلم من خلالها المرأة لتسكت وتطيع. هذه الوصاية تختلف تماماً عن نظام بقاء أحد طرفي العلاقة في البيت ليعمل الطرف الآخر، كأن تختار المرأة ألا تعمل خارج البيت أو أن يختار الرجل الاختيار ذاته، كما يحدث الآن في الكثير من المجتمعات الغربية، هذه حالة من موازنة المصروفات بالمدخول وتقرير الأنسب مالياً واجتماعياً للعائلة. ما أتحدث عنه هو نظام فرض الوصاية المالية الذي يبدأ بالمهر ويستمر طيلة الحياة في شكل المسؤولية المادية الذكورية وبقية متعلقاتها من حقوق جسدية ونفسية، التي تبقى تدفعها المرأة بقية دهرها معتقدة أنها الرابحة، وهي في الواقع الخاسر الأكبر. التخلي عن شيء من الراحة وتحمل المسؤولية هو ما سيحقق العدالة وينهي العنف الاقتصادي وما تتبعه من أنواع العنف المجتمعية الأخرى.