في إحدى مداررس الأنبار في العراق
المعادلة الرابحة
كتبت في المقال السابق عن الضرورة الحتمية لاستبعاد تدريس العقيدة الدينية الموحدة للأطفال في المدارس واستبدالها بمقررات الأخلاق وحقوق الإنسان وكذلك مقررات تواريخ الأديان. تكلمت عن النتيجة السلبية لتعليم “حقيقة” عقائدية مطلقة للأطفال المنتمين لأسر وعقائد ومذاهب مختلفة وكيف أن هذا المنحى يخلق أجيالا تنتهج النفاق الاجتماعي والديني لتعايشها في المجتمع.
إلا أن الضرر في الواقع يفوق بكثير مجرد خلق جبهة نفاق قوية في المجتمع تقسمه وتفرق أفراده وتبعثر الولاءات، التي عوضا عن أن تكون للدولة المدنية وحدها، ستتوزع إلى ولاءات لمراجع وشيوخ قد يكونوا خارج حيز هذه الدولة بل وفي تضاد مع مصالحها. الضرر في الواقع سيفوق آفة النفاق التي يزرعها تعليم “الحق المطلق” لمجتمع متعدد، ليطال العقلية الطفولية بحد ذاتها والتي ستتشكل باضطراب يعود الى اضطراب أساليب التعليم بحد ذاتها.
يفترض أن يتلقى الطالب المعلومة في المدرسة ليفهمها ويناقشها ولربما ليستطيع مساءلتها وحتى دحضها في المستقبل. يبني التعليم الغربي فلسفته على أساس هذا المفهوم لتغير وتطور بل ونفي المعلومة المقدمة حاليا، حيث أن المعلومة التي تقدمها المدرسة يفترض أن تكون بداية الخيط لا نهايته، وبابا للشك لا لليقين، ومفتاحا للتساؤل والتغيير لا للتقديس والتثبيت.
وعليه، فإن انتقال الطالب من مقرر التربية الدينية الذي يتعلم فيه الثوابت والمقدسات غير القابلة للتساؤل أو التشكك أو مجرد النقاش، إلى مقرر العلوم القائم على التجربة والإثبات والشك والسؤال والبحث والرفض والعناد في تصديق المعلومة، هذا الانتقال لن يكون سهلا أو حقيقيا أو فاعل التأثير.
لا يستطيع الطالب بضغطة زر تغيير العقلية المستسلمة الممتنعة عن التساؤل في حصة العقيدة إلى العقلية المتشككة الرافضة الممعنة في التساؤل في حصة العلوم، منطقيا وعقلانيا؛ لا يمكن للطالب المتوسط المستوى أن يحدث هذه النقلة النوعية في التفكير تنقلا بين صفوف الدرس. وعليه، فإن هذا الأسلوب التدريسي سيخلق نوعا من العقلية المتلقية الخانعة، لا تناقش ولا تفكر ولا تتشكك، وهذه العقلية هي مقبرة العلم وكفن التطور والنجاح والتقدم.
هذا وتعمد منهجية تعليم العقيدة في المدرسة إلى خلق مفهوم الحق المطلق في عقلية الطالب الصغير، مما يصعب عليه عملية تقبل الآخر المختلف أو حتى مجرد التفكر في وجود حقائق أخرى غير حقائقه ومعتقدات مهمة لأصحابها بأهمية معتقده.
وعليه فإنه من المهم بمكان، وإضافة لتدريس مقررات حقوق الإنسان ومقررات الأخلاق لأسباب بديهية وواضحة، كذلك تدريس مقرر لتواريخ الأديان، وهو مقرر يفترض أن يهدف لتعريف الطلبة بالأديان الرئيسية المحيطة بهم والمنتشرة في العالم أجمع وذلك بغرض توسيع آفاقهم وتكبير الصورة، التي عادة ما يصغرها المجتمع ويحصرها في أفكاره ومعتقداته؛ توسيعها لتشمل السبعة مليار من البشر الموجودين على سطح الأرض عن طريق إعطاء لمحة صغيرة حول معتقداتهم وإيمانياتهم وأفكارهم، على الأقل الرئيسي والمنتشر منها.
هذه المنهجية مهمة جدا ليس فقط لتوسعة الأفق والكشف عن الحقيقة الراسخة المهمة لتعدد المعتقدات والأديان ولتشابه التشبث البشري بها باعتبارها حقيقة راسخة مطلقة لا يُعلى عليها ولا مجال للتنافس معها، بل هي مهمة كذلك لصنع وترسيخ درجة من التواضع النفسي تجاه فكرة الحقيقة المطلقة والحق الأوحد ومفهوم “أنا على صواب لا يمكن أبدا أن يحتمل الخطأ” الذي يعتمده المعظم في مجتمعاتنا.
إن تعريف الطلبة بعدد الأديان المنتشرة في العالم، وما باد منها وما زال قائما، سيوسع أفق هؤلاء البشر الصغار، وسيفسح المجال في عقولهم الصغيرة لربما إلى احتمالية وجود حقائق أخرى، أو على الأقل لتفهم تمسك الآخرين بحقائقهم وإيمانياتهم، لمقارنة مشاعرهم هم تجاه دينهم وعقيدتهم بمشاعر الآخرين تجاه أديانهم ومعتقداتهم المختلفة والمخالفة. عندها سيفهم الصغار أن هناك صغار آخرون غيرهم، “مساوون لهم في الإيمان ومتضادون معهم في الاتجاه” هم كذلك لديهم حقائق مطلقة؛ هم كذلك لديهم ثوابت لا تقبل النقاش: هم كذلك لديهم إيمان بجنات لن تطأها أرجل المختلفين عنهم في العقيدة والعبادة. ساعتها، وفقط ساعتها، سيكبر الصغار ليصبحوا كبارا يقدرون التعددية ويفهمون الكيفية الصحيحة للتعامل معها.
ندرس الأطفال الأديان تاريخيا ومعلوماتيا، نعم، أما تدريسهم الدين على أنه حق مطلق لا يقبل النقاش، فهذا مكانه البيت أو دار العبادة أو المدارس الخاصة التي تقدم خدماتها ما بعد ساعات التدريس الرسمية، حيث الدولة العلمانية الحقيقية تفسح المجال، عن استحقاق لا يقبل النقاش، لتأسيس مدارس عقائدية يتعلم فيها الطلبة المختلفين أصول أديانهم المختلفة بيسر ودون أي عقبات.
هكذا أتذكر أنه بعد ساعات الدراسة الرسمية في أميركا، إبان فترة إقامتي فيها للدراسة، كان الراغبين من الطلبة (أو ذويهم) يذهبون الى مدارس دينية مختلفة حسب توجهاتهم. كانت هناك مدارس إسلامية مرة أو مرتين أسبوعيا، وكذلك كانت هناك مدارس الأحد لتعليم العقيدة المسيحية وغيرها.
بذلك، يشعر الجميع بأنهم يقفون على مسافة واحدة في دولتهم التي لا تفضل عقيدة على عقيدة ولا حظوة فيها لطائفة على طائفة، ولا تتورط مدارسها في تقديم مادة عقائدية على أنها الحقيقة المطلقة.
الجميع رابح في هذه المعادلة، التعليم المدني محفوظ، التعليم الديني مكفول، والعقل الصغير ينمو دون أن يكون عرضة لمرض النفاق أو الانفصام في طريقة التفكير.