تحميل إغلاق

بلاستيك

بلاستيك

تكلمت في المقال الماضي عن طبيعة مجتمعاتنا الجمعية التي لا تزال تعمل بنظام أبوي يفضل الجماعة على الفرد ويعلي شأنها على حساب سعادة هذا الفرد وحريته، وعلى الرغم من أن التشابه والتكرار والتناسخ الفكري والتنميط الاجتماعي والحياتي كلها تؤدي لأمراض اجتماعية مستعصية، إلا أنها جميعاً من أهم مقومات قبول الجماعة للفرد في مجتمعاتنا، وهي إشارة عند الجماعة إلى أخلاقية هذا الفرد وبطاقة مرور له إلى الدرجات العليا فيها. في مثل هذه المجتمعات الجمعية تتدخل الجماعة في كل قرارات الفرد الاجتماعية والأيديولوجية المصيرية، ولكنها لا تتورع كذلك عن التدخل حتى في القرارات الشكلية والحياتية اليومية، ولا تأنف من بسط نفوذها حتى على أصغر تفاصيل معيشة الفرد، من حيث الملبس والمأكل، إلى أبسط الممارسات اليومية. تستخدم هذه المجتمعات سلطة العادات والتقاليد التي تشحنها القوى الأبوية التي تعلو ما عداها فيها، كما وتستغل هذه المجتمعات الخطاب الديني لتستعمله مروضاً لأي خارج عن الصف الفكري أو الاجتماعي.
بلا شك، فإن التسلط الفكري والأيديولوجي مفهوم الأسباب والأهداف، فتوحيد الفكرة التعبدية مثلاً وتثبيت المخاوف الدنيوية والمابعد دنيوية على ذات المنهجية الفكرية يسهل جداً عمل الساسة والأكليروس الديني لقيادة الشعوب وإبقائها تحت جناح السلطة، ما يسهل في المحصلة التحكم في مقدرات هذه الشعوب والاستفادة من مداخيلها المالية ومجهوداتها البدنية، إلا أن التحالف السياسي الديني عندنا لم يكتف بالتسلط الأيديولوجي على الجوانب الحياتية والفكرية الرئيسية فقط، بل إن هذه القوى المتحالفة اكتشفت كم هو مؤثر ومهم التسلط على الجوانب البسيطة والجانبية والشديدة الخصوصية في حياة الناس، والذي هو تسلط قد يتفوق تأثيره وتعظم نتائجه عن ذاك الواضح على الجوانب الأساسية والواضحة من حيواتهم. مهم، تحت هذا النظام، أن يستسلم الفرد لرأي الجماعة وأن يسعى للتحصل على قبولها في شؤون زواجه ومعيشته وتوجهه الفكري واعتناقه العقائدي، غير أن الأهم، على ما يبدو، أن ينصاع هذا الفرد لرأي الجماعة في ملبسه وفي شكله الخارجي وفي طريقة حديثه، ولربما حتى في مأكله ومشربه ومنامه. لمَ تهتم السلطة السياسية والدينية، وكذا السلطة المجتمعية المتمثلة بالرأي الجمعي للأفراد، بخصوصيات حياة الفرد وبدقائق ممارساته التي ربما لا انعكاس واضح ومباشر لها على الحياة العامة؟ إن الدفع بهذا الانصياع الدقيق في التفاصيل الخاصة والهامشية في الحياة يبدو وكأنه خطة ممنهجة اعتمدها الساسة المتحالفون مع الإكليروس الديني، ليوظفوا من أجلها كل فرد من أفراد الجماعة رقيباً على رفقائه، ناقداً لهم أي اختلاف، ومبلغاً عنهم أي محاولة للخروج عن الصف. إن عملية خلق رقباء على بعضنا بعضاً، وتباعاً، خلق رقيب شخصي داخل كل منا على نفسه، هي العملية الأسهل والأكثر إنتاجاً في مجال التحكم بالأفراد وضمهم تحت منهاج سلطوي لا يجرؤون على الخروج عليه. فما هو الأيسر والأكثر فاعلية وضع شرطي (بوليسي أو ديني) فوق رأس كل فرد أو خلق فكرة مرعبة تروض الفرد وتوظفه خوفاً ووجلاً رقيباً على نفسه و«ببلاش» كذلك. وعليه، ولكي تتحقق هذه الدرجة من الرقابة الداخلية، لا يمكن الاكتفاء بفرض سلطة المجتمع فقط على العظيم الواضح من الأمور: قرارات الزواج، والمعيشة، والعمل، وغيرها، ولكن يجب أن تمتد هذه السلطة الى البسيط الهامشي أو الخاص جداً من الأمور: طريقة الملبس، نوعية المأكل، مروراً بطريقة دخول الحمام والاغتسال، ووصولاً إلى الممارسات الخاصة خلف الأبواب المغلقة. فإذا ما كان الخطاب الجماعي (الذي يصنعه الخطاب السياسي الديني) يرسم الشخصية بأدق تفاصيلها حد توجيه الفرد في طريقة خطوه داخل الحمام وحول محظورات ومسموحات ممارساته داخل غرفته الخاصة، فما بقي من الهوية الفردية وكيف يمكن للتميز أو الاختلاف أن يظهرا أو يؤثرا في مسيرة الحياة وفي تطور المجتمع؟
إن عملية فرض التزام فكري أو توجه عقائدي أو صياغة اجتماعية للحياة هي عملية مؤثرة ومقيدة للفرد، إلا أنها سهلة التمييز، واضحة المعالم، يمكن للفرد أن يتبين آثارها بشكل مباشر في حياته وعليها، إلا أن عملية الإلزام الشكلي والحياتي (أي في الممارسات الحياتية اليومية حتى تلك الخفية عن الآخرين) فتلك عملية صعبة التمييز، عصية التفرقة بين ما أن يكون الفرد قد تبرمج عليها أو أنه مقتنع بها، تلك هي لربما المروض الأول، الشرطي القاهر فوق رأس الفرد الذي يبقيه في الصف ويعجنه عينة أخرى مطابقة لبقية العينات في المجتمع. ذلك في اعتقادي هو المحفز الأول الذي دفع بمجتمعاتنا، كما كل مجتمع إنساني آخر سلطوي المنهج، إلى التدقيق كثيراً على مظهر الإنسان وملبسه، وإلى المحاولة دائماً للدفع بتشكيل صيغة مظهرية موحدة للأفراد ليشعروا من خلالها بأنهم حلقة في الصف، بأنهم منتمين، وعليه.. بأنهم ملتزمون بالقوانين العامة للجماعة. ولربما لهذا السبب دائماً ما تسعى القراءات الدينية لمعظم المعتقدات لإيجاد صيغة مظهرية موحدة للرجال والنساء، بل وحتى زي موحد يوصلهم ببعضهم بعضاً خارجياً، ويميزهم كجماعة موحدة مترابطة الفكر وملتزمة الأفعال.
تحت هذه السلطة الهائلة من المراقبة والتدقيق والتقنين لأدق تفاصيل حياتنا، كيف لنا بهويات مستقلة؟ كيف لنا باختلاف صحي؟ كيف لنا بالخروج المنعش عن الصف، هذا الفعل الوحيد الذي يشعرك بأنك إنسان حي لا مجرد وصلة بلاستيكية في سلسلة من البشر البلاستيك؟

اترك تعليقاً