الصعود للأسفل
شاركت قبل أيام في مساحة على «تويتر» مع مؤسسة «مواطن»، في حوار بعنوان «خطاب الكراهية… مسؤولية المواطن أم الإعلام أم الحكومات»، حيث تشاركت مع المفكر الأستاذ سامح عسكر في مناقشة موضوع خطاب الكراهية و«الشعرة الشقراء» التي تفرق بين حرية الرأي وهذا الخطاب، والتي أحياناً بالكاد يمكن تمييزها بين نوعي الخطاب هذين.
كان من بين ما أشارت إليه إحدى المداخلات وأكدته أنا تعليقاً بعد ذلك، أن خطاب الكراهية لا ينحصر أبداً في الخطاب الديني، فالخطاب الأصولي والعرقي واللوني والجندري، إلى جانب خطابات أكثر حداثة مثل الخطاب الوطني، كلها يمكن أن تنحدر إلى مستوى الكراهية. أمَّن الأستاذ عسكر على الرأي كذلك، لكنه أكد أن الخطاب الديني هو أحد أبرز الخطابات التي قد تُصدِّر الكراهية والانحيازات، وهو ما أتفق فيه معه تماماً، ثم أكد كذلك أن الخطاب الديني الإسلامي تعرض لكثير من التزوير والكذب اللذين خلقا خطاب كراهية هو ليس من أصل الخطاب الإسلامي في شيء. ومع أنني أتفق أن كل الأديان تتعرض للتزوير والكذب الخارجيين، أي المدسوسين عليها من غير أصحابها، إلا أن المشكلة الحقيقية لهذه الأديان تتأتى من العمق، حين تنحو التفسيرات والتأويلات والقراءات الداخلية للعنف والكراهية والنفور من الآخر المختلف، حيث تتجلى خطورة هذا الخطاب الداخلي في الشرعية التي يكتسبها بحكم مصدره وبحكم مكانة القائمين عليه.
إن استشكالية خطاب الكراهية عميقة ومعقدة بحق، وأول خطوات التعامل معها تتحقق بالإقرار بحقيقة مصدرها مهما كان الإقرار موجعاً أو مشوشاً. لا بد من الاعتراف أن هناك تفسيرات وقراءات إسلامية خلقت خطاب كراهية من عمق الفقه الإسلامي، والذي هو في النهاية متشكل من صياغة إنسانية ورأي بشري. هناك فتاوى وأفكار وتفسيرات من شيوخ يجلهم التاريخ ويقدسهم المجتمع الإسلامي، محملة بالانحيازات والتطرفات والكراهيات المحضة، ولا أقوى دلالة على ذلك من الانقسامات الطائفية الإسلامية التي تعززها خطابات فقهية مختلفة، فرقت ولا تزال المسلمين بمشاعر نفور وباعتقادات تكفيرية للطرف الآخر. ليس هناك كذلك مثال أوقع من مثال نَفَس الكراهية الموجود في الخطاب الإسلامي تجاه أصحاب الأديان الأخرى، بدءاً من تحريم السلام عليهم وتهنئتهم بأعيادهم، وصولاً إلى استباحة أموالهم ونسائهم وحتى أرواحهم.
إن القول بأن هذا ليس من روح الدين في شيء هو قول مفكك، لا سند يجمع أطرافه ولا واقع يثبته، ففكرة «روح الدين» هي فكرة نسبية جداً تعتمد على الرؤية التاريخية للدين وعلى التفسيرات والقراءات المختلفة لنصوصه وأحداثه. روح الدين عند السنة مختلفة عن روحه عند الشيعة، روح الدين بالنسبة لداعش لها بعد يختلف عن ذاك الذي للإخون المسلمين أو لحزب الله. لذلك، فإن الادعاء بأن أي خطاب كراهية هو دخيل على الدين يبدو وكأنه مجاملة نفسية، نخفف بها على أنفسنا ونسيِّر بها الحديث لمكان آمن.
لدينا مشكلة حقيقية، مشكلة تحتاج أولاً للإقرار بها ومن ثم لاستيعاب مكوناتها، لاستيعاب الظرف والإطار التاريخي، لاختلاف المحيط والزمن والتي كلها خلقت قراءات كانت مقبولة ذات ماض ولم تعد مقبولة في الحاضر، كانت منطقية ذات لحظة وما عادت في هذه اللحظة، كانت متوائمة إنسانياً ذات فلسفة ولم تعد كذلك في الفلسفة الإنسانية المعاصرة. لا بأس من أن ننظر للإطار التاريخي، لا بأس من أن نقر ببشرية من كتب كتب التراث ومن تفقه الفقه الديني ومن فسر التفسيرات الشرعية ومن صنع المنظومة الفكرية. كثيراً ما يضفي مرور الزمن والاعتياد والتكرار شيئاً من القدسية و»الحقيقية» المطلقة على الآراء والأحداث، غير أننا وفي عارض محاولتنا لحل وحلحلة خطاب الكراهية القوي في الخطاب الديني، علينا أن نفكك هذه القدسية وهذا الحق المطلق، نعيد فهمهما وتقييمهما خارج الإطار التاريخي، ومن ثم نعيد صياغتهما بما يناسب الزمان والمكان.
مشكلة خطاب الكراهية لا تنحصر بأي حال من الأحوال في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، فالمجتمعات الغربية تموج، خصوصاً في الوقت الحالي، بخطاب كراهية متصاعد عنيف. والفرق أن خطاب الكراهية الغربي في الغالب لا يدخل في التشريع ولا في صياغة منظومة الحكم، كما أن الخطاب الناقد للدين في الغالب لا يدخل في باب ازدراء الأديان ولا يتعرض أصحابه للعقوبات والقمع. ولنا في الهند مثال حزين، وهي من دول الشرق لا الغرب، فلطالما كان هناك خطاب كراهية منتشر في الهند بحكم العدد الكبير من الأديان والطوائف المنتشرة في هذا البلد، إلا أن هذا الخطاب البشري الذي كان مُسيطراً عليه نسبياً تعدى كل المعقول وتخطى حدود الأمان وصولاً لدرجة الخطر الساحق حين تداخل مع السياسة والحكم، حيث بدأت آثاره تظهر في التوجهات العنصرية القمعية العنيفة تجاه المسلمين، والتي لربما ليس آخرها مقترح منع تجنيس المسلمين بالجنسية الهندية.
خطاب الكراهية الديني خطر أينما حل، لكن خطورته القصوى تكمن في تداخله مع السياسة وفي مساندته من قبل منظومات الحكم. وحين يحدث ذلك، وهو المتكرر المرير في عالمنا العربي، يصبح للكراهية وجه قانوني، تصبح محمية ومسنودة، وعندها لا يبقى لهذا المجتمع بكراهيته المتصاعدة من طريق سوى للأسفل.