تحميل إغلاق

بكتيريا الشرف

بكتيريا الشرف

لا يكاد يمر أسبوع دون أن يصلنا خبر مقتل فتاة أو امرأة على يد معتوه “صنديد” من النوع الذي لا يعرف كيف يغسل لباسه الداخلي لكنه بالتأكيد يعرف كيف يغسل شرفه بدماء أنثى من عائلته، شرفه الذي فاحت رائحته بأفعاله هو بحد ذاته لتغطي على رائحة الداخلي الذي فاح بعطانته.

في هذا المجتمع الذي يثور بسبب فستان ممثلة نقصت بطانته أو بدلة راقصة تفتقت أجنابها أو صورة قوس قزح على مغلفات البضائع، لا معنى لحياة أنثى صوتها عورة وجسدها مصيبة وحريتها عار، لا معنى لكرامة أنثى أفضل ما يتمناه لها المجتمع أن تحظى “ببيت العَدَل” وأقوى ما يدعو لها به هو “الله يستر عليك” وأفضل مديح لها هو أنها “أخت الرجال.” في هذا المجتمع، كما يقول محمد خير في مقاله “نيرة . . . في مقتل ’ربع إنسان‘” المنشور على موقع رصيف 22، يحمل الرجل “استحقاقه الذكوري نتاج عجينة الدين والعادات و’القيم‘ الشرقية. استحقاق لا يجعل رفض الفتاة له شيئاً عادياً، بل إهانة ليس كمثلها إهانة. إهانة لا يمانع في تسليم نفسه إلى حبل المشنقة في سبيل محوها، وذلك لأنه لم يُرفض من إنسان مثله، مساوٍ له في البشرية والمقدار، بل رُفض من امرأة هي نصف إنسان. لو كان الحديث عن الشهادة في المحكمة، نصف إنسان. لو كان الحديث عن ديّة القتيل، وهي نصف إنسان أو ثلثه أو ربعه. لو كان الحديث عن الزواج، فله أن يتزوج من اثنتين أو ثلاث أو أربع، وليس لها إلا زوج واحد، كادت أن تؤمر بالسجود له، بعد أن أُمرت بطاعته حتى في الخروج من باب البيت.”

تسهل إراقة دماء نصف الإنسان بالتأكيد، فهو نصف حياة ونصف كرامة، نصف ألم ونصف معاناة، نصف ذنب ونصف حزن. وكأن النساء وُجدت في الشرق الأوسط رايات حرب ومواقع هزيمة وانتصار، هن السبايا انتصاراً وهن دماء تغسل شرف وعار الذكور هزيمة، على أجسادهن يتم إعلان الفحولة والذكورة ورفع رايات الشرف والسمعة وغرس حراب العِرض والكرامة، هن أدوات إثبات الذكورة لرجال فقدوا إنسانيتهم وفي مجتمعات استرخصت نصف ثروتهم، هن آخر ما بقي لرجال تمجن كل الليل لتفقد كل خُلُق ونبل واستقامة وتصحوا منشدة في النهار ملاحم الشرف الذي يراق على جوانبة الدم، وأي دم أسهل وأقرب لليدين وأكثر فاعلية لغسل خطايا ومجون ليل الذكر سوى دم أنثى من إناث بيته، يتبدى له على جسدها كل ما اقترفه بحق غيرها فيحملها كل شكوك نفسه المريضة التي أدمنت المجون؟

في مصر نُحرَت نيرة على مرئى ومسمع المارة من ذكر خُدشت ذكورته بسبب رفضها إياه، إلا أن طلب الرحمة لها تكاد تسمعه، حتى ولو كان مكتوباً، مصحوب بتنهيدة “لو أنها كانت محتشمة في ملبسها” و “لماذا رفضته وهو لا يعيبه شيئ؟” ذلك أن كل ما أظهرته شهادات من حوله هو أنه رجل هادئ لم يُسمع له حس إلا وهو يضرب أمه وأخواته، أنعم وأكرم. وفي الكويت، وعلى مرئى ومسمع موظفات وطالبات مدرسة للبنات، اعتدى أب على ابنته بمساعدة أخيه ضرباً وتنكيلاً ليحملاها من رأسها وقدميها ويرمياها في السيارة في واقعة خطف علني، ليتم إنقاذها لاحقاً بتكلفة تعهد، ذلك كل ما في الأمر، كتب الوالد على نفسه تعهد، نكاد نرى الضحية تبله وتشرب مياهه السامة.

وهل ننسى في الكويت السيدة التي قتلها متعقبها في منتصف الشارع وفي وضح النهار؟ أم تلك التي دخل عليها أخيها غرفة الإنعاش ليستكمل الجريمة التي بدأها مسبقاً وينجزها بطلقات نارية داخل المستشفى؟ وهل ننسى في مصر الطبيبة التي تم إلقاؤها من شرفة شقتها بحمية جيرانها؟ وهل ننسى في الأردن الفتاة التي عٌذبت ببشاعة على يد أخيها ليقتلها ويدفنها ويشارك في جنازتها؟ وهل ننسى في اليمن الأب الذي أطلق النار على صغيرته ذات العشر سنوات “ذوداً عن شرفه؟” وهل ننسى قتيلات فلسطين والعراق والجزائر والمغرب والسعودية وكل دولة عربية بلا استثناء؟ حتى من منا فقد إنسانيته وضميره وأراد أن ينسى لا يستطيع، ففحول الوطن العربي لا يعطوننا فرصة، مهلة، فارق زمني بين الضحية وخليفتها حتى نشم النفس ونمثل أننا نسينا.

لربما الرجل ضحية كذلك، ضحية الحمل الثقيل لغسل العار وحماية الشرف، العمليتان اللتان لا تتمان إلا بإسالة دماء أنثى، إلا بتقديمها قرباناً، جثة هامدة، حتى تزدهر حياة الرجل وتُحفظ كرامته. لربما هكذا برمجة، حياة الأنثى مقابل كرامة الذكر، هي برمجة تعذيبية قهرية بحد ذاتها، ولكن هل نملك ترف التأسي للرجل الذي تبرمج تشوهاً ليعتقد أن دماء الأنثى هي المعقم الوحيد ضد بكتيريا السمعة والشرف حين تكون الضحايا على الطرف الآخر بمئات الآلاف، على مدى التاريخ بالملايين، نتاج هذه البرمجة المشوهة؟ هل للرجل والمجتمع والخصوصيات والعادات والتقاليد والقراءات الدينية في القرن الواحد والعشرين وفي زمن حقوق الإنسان والحريات ذات الأعذار الغابرة؟ هل يمكن أن نثق بمجتمع، كما يقول محمد خير في وصف رد فعل رجاله إذا رُفضوا، لا يزال يؤمن بطريقة “’رد الشرف‘ على رؤوس الأشهاد، تماماً كمنديل غشاء البكارة، وجرائم الثأر العائلي، ورغبة الجمهور الدائمة في تنفيذ الإعدام ’في ميدان عام‘”؟

اترك تعليقاً