الدورة الشهرية
صدر مؤخراً تقرير مهم عن صندوق الأمم المتحدة للسكان وهو بعنوان: “جسدي ملك لي وحدي: المطالبة بالحق في الاستقلال الذاتي وتقرير المصير،” والذي يناقش درجة استقلالية النساء ومدى حقيقية امتلاكهن لأجسادهن.
يبدأ التقرير بتمهيد كتبته الدكتورة ناتاليا كانيم وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، والمديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، حيث تتساءل فيه: “كم امرأة وفتاة تستطيع ترديد هذه العبارة بحرية وصدق؟” تجاوب الدكتورة كانيم على سؤالها بنفسها حين تقول: “إن حرمان النساء والفتيات من استقلاليتهن الجسدية خطأ جسيم، ذلك لأنه يتسبب في أوجه من عدم المساواة والعنف ويرسخها، وتنشأ جميعها نتيجة التمييز القائم على النوع الاجتماعي.” يستمر التقرير في استعراض هذه القضية الشائكة بالأمثلة والأرقام ذاكراً بعض التحالفات الجديدة التي تناصر سيطرة المرأة على جسدها وكذلك مستعرضاً بعض قصص الضحايا وأدوار مقدمي الرعاية الصحية تجاههم.
يبدأ التقرير بتصريح قوي منقول عن “شبكة النساء الاحترافيات” يقول: “نحن لنا الحق الأصيل في اختيار كيفية حفاظنا على أجسادنا وفي حرصنا على صونها ورعايتها وفي التماس حرية التعبير عن ذلك؛ فجودة حياتنا رهن بذلك. بل إن حياتنا نفسها رهينة التمتع بهذا الحق” (7). تتعقد المشكلة في عالمنا العربي بشكل كبير حين يتم الحديث عن أجساد النساء، فمجرد ذكر هذه العبارة “أجساد النساء” يبدو وكأنه فعل خارج خادش يكشف ستر هذه الأجساد، فعل يفتح “صندوق باندورا” عن تابو لا يفترض الحديث عنه. فإذا كانت المشكلة في عالمنا العربي الإسلامي تبدأ من التصريح بالعبارة، فكيف سيكون الوضع بتفعيل الحريات والحقوق تجاه هذا الجسد محل الذكر في هذه العبارة؟
في عالمنا العميق، يمكن تناول بعض الحقوق الجسدية للمرأة بحذر وعلى استحياء، إلا أن معظم هذه الحقوق ومتعلقاتها من حالات بيولوجية ورغبات بشرية تبقى خارج نطاق الحوار تماماً. فقضايا مثل زواج الصغيرات وختان النساء والحمل القسري والحرمان “الأيديولوجي” أو الفعلي من استخدام وسائل منع الحمل والعنف الجسدي العائلي والحد من حرية الحركة والتنقل، كل هذه مواضيع حقوقية إنسانية تطرح للنقاش “من خلف ساتر” وهي مربطة ومكممة بالقراءات الدينية القديمة والعادات والتقاليد الغابرة.
فموضوع تحديد النسل ومثله موضوع ختان النساء وزواج الصغيرات لا تزال كلها قيد الرأي الديني التقليدي رغم سيادة المنظومة الحقوقية والعلمية على هذه المواضيع في زمننا الحالي. كذلك، فإن العنف الجسدي العائلي تجاه المرأة لا يلاقيه رد الفعل التجريمي الرافض المستحق، فضرب المرأة هو سلوك منتشر مستتر في عالمنا الداكن، هو مقبول ضمنياً وأحياناً مستحسن كأسلوب تأديبي تطويعي، وهو سلوك يلاقي تبريرات دينية قديمة وتأييدات تقاليدية لا تجد عظيم التثريب على رجل مد يده إلى زوجته على سبيل المثال. بل إن المجتمع ينتظر من المرأة هنا أن تغفر وتتجاوز وتتحمل من أجل مصلحة الجماعة، ليس الأسرة فقط ولكن التكوين المجتمعي الذي يضم هذه الأسرة ككل.
إذن ما مدى تقبل مجتمع كهذا، بنسائه ورجاله، لفكرة تحرير إرادة المرأة تحكماً في جسدها وتعبيراً عن مشاكله ورغباته وغرائزه؟ لازال جسد المرأة بكل أجزائه تابو عميق، ولازالت تجاربه يشار إليها بمرادفات غامضة أو مصطلحات مستعارة للتغطية على “الفعل الآثم” للجسد. تتورع الكثير من النساء عن الإشارة لدورتهن الشهرية على سبيل المثال، وحتى وهن يتحدثن لبعضهن البعض، لا يحبذن ذكر هذه الحالة البيولوجية تصريحاً، فتجدهن يخفين الحالة تحت أسماء مستعارة مثل “الإكس” و”الضيفة” وغيرها من التعابير التي تضفي غموضاً واسترابة من الحدث الجسدي.
وحتى العالم الطبي، بتأخره في استكشاف الحالات البيولوجية للمرأة وفي تعريف وتسمية هذه الحالات، عزل تجارب المرأة وأخرجها خارج نطاق المناقشات الطبية والمجتمعية، فأهملتها العلاجات الطبية، واستراب منها العامة، وباتت المرأة بلا وسيلة تعبير عن التجربة أو الألم العضوي الذي يمر بها بكل ما يحمله من تداعيات نفسية. لم يبق لها سوى لفظ “هستيريا” الكريه الذي بدأ منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يتوقف بعد في عالمنا المحافظ العنيف، ليعبر عن كل تجربة تمر بها المرأة، تعبيراً لا يساعدها ولا يطببها ولا يخفف عنهأ، إنما هو تعبير يتهمها ويمتهنها ويعقد حياتها الصعبة أصلاً.
هناك من التجارب كذلك ما يغفل عنه المجتمع، مثل ما ذكره التقرير من حالات “توارث الأرملة”، حيث يقول التقرير “فوراثة الأرملة – على سبيل المثال – يجبر المرأة على الدخول في علاقات جنسية مع الرجل “الذي ورثها” بغض النظر عن عدد شريكات الجنس اللاتي كن له في الماضي، وهو ما يزيد من فرص انتقال عدوى فيروس نقص المناعة البشرية (مابومبا وآخرون، 2007 )” (37). هذه الحالات لها أمثلة واضحة في القارة الأفريقية، إلا أن لها أمثلة رديفة في مجتمعاتنا المحافظة وإن لم تلتزم تعبير الوراثة بوضوح ومباشرة. في معظم بلداننا العربية المحافظة يتم الضغط على الأرملة للزواج بأخي زوجها وذلك حتى نبقى “الأنثى” في إطار العائلة والأطفال “عند أهلهم.” مثل هذه الضغوطات النفسية والجسدية على المرأة لا تلاقي الاهتمام الكافي دع عنك البحث والدراسة والعلاج المطلوبين.
الطريق طويل أمام وصول المرأة إلى حيث جسدها، لتستطيع أن تمد يدها له، لتتعرف عليه، تكتشف خباياه وطبيعته العلمية البيولوجية، لتفهم أنه جسد إنساني، كما جسد الرجل، له طاقة قصوى لا يجب تعديها، له ممارسات ينفر منها لا يجب قسره عليها، له مفاتيح حيوية من الضروري فهمها ليصبح هذا الجسد أكثر صحة ولتصبح الحياة على إثر ذلك أجمل وأكثر امتداداً بصاحبته. إلى أن نفهم أجسادنا، إلى أن نستوعب أن الحديث عن تجاربنا الصحية والجسدية هو ضرورة حيوية، وإلى أن نسعى لإدخال أجسادنا في منظومة التعامل الطبيعي لتتحول هذه الأجساد من عورة إلى ثروة ومن عبئ إلى عون ومن تابو إلى السائد الطبيعي، لن نتملك أجسادنا، وبالتأكيد لن نحررها. لربما أبدأ أنا بمعاندة ترددي تثبيتاً لعنوان هذا المقال، تراه ما سيجلب من سخريات واتهامات وتعديات؟ ليس مهم كل ذلك، المهم أن نحرر تجاربنا ونبدأ من مكان ما..