الدشداشة البيضاء
ربما نتعلم درساً، ربما نقترب تلاحماً، ربما نصحو إفاقة، ربما ننقذ ما يمكن إنقاذه، ربما، ولكن كل هذه “الربمات” لن تعيد القتلى، لن تطبب الجرحى، لن تنسي أحمد الصغير ذا الأحد عشر عاماً رعب لحظة السجود التي تشظت في جسده تاركة إياه بجروح متناثرة وبقطع معدنية سابحة في حوضه الصغير.
في أمان بيتي، أجلس إلى مكتبي فجر سبت غريب، ليس كأي سبت سبقه، سبت لحق بالجمعة الدامية التي تركتنا على غير ما أتتنا. البيت آمن، والأبناء آمنون، وزوجي يجلس قبالتي يلقي علي النظرة تلو الأخرى كأنه يتحرى إن كنت ذات الشخص الذي ألقيت عليه تحية صباح يوم الجمعة. الكل آمن، ولا يوجد أمان، الكل ساكن هادئ ولا يوجد سكون أو هدوء.
في ردهات مستشفى الأميري بدا الوضع في غاية الغرابة، الرجال يتأرجحون بدشاديشهم الحمراء وكأن كل رجال الكويت قرروا أن يثوروا على بياض دشاديشهم، قرروا أن يغيروا لونها جماعياً، فلطخوها بإهمال الرجال المعتاد تلطيخاً عشوائياً، وتجمعوا بضجيج الرجال المعتاد تجمعاً فوضوياً صاخباً. تأوهات حيية، أنين خافت، نُواح لاعج، عويل هائج، موجات لحنية ممتدة ترتفع وتهبط حاكية حكايا حب وصداقة وتاريخ ممتد، راوية قصص سنوات شراكة على سفرة الطعام وفرشة السرير وأريكة الصالة وطائرة السفر، روايات فرح وغضب وخصام ووئام، كلها تسمعها وأنت تمر على أصحابها يلحنون ألماً لا يمكن تخيله، يعزفون فقداً حارقاً لا يمكن معايشته، يترنمون كلمات لم يعد بالإمكان أن تقال.
قلت لنفسي، لو أنني أغمضت عيني يمكنني أن أحول كل هؤلاء الرجال بدشاديشهم الحمراء إلى “معاريس”، وكل هذا العويل إلى زغاريد، كل هذه الصلوات والابتهالات و”التحسبات”، كل هذه التوسلات والاستجداءات لله والتضرعات، سأحولها كلها إلى أدعية سعيدة تحتفي بيوم سعيد. كلما حاولت، رنت في أذني “آهة” لابد أنها حرقت حنجرة صاحبها في طريقها إلى أذني، آهة تأخذني من الحلم إلى الحقيقة، ومن التمني إلى الواقع، لقد حصل ما كنا نخشاه جميعاً، نحذر منه جميعاً، ونهمل محاربته جميعاً، لقد حصل ووصل وصبغ دشاديش الرجال وقلوب النساء بأحمر لا يزول.
ربما نتعلم درساً، ربما نقترب تلاحماً، ربما نصحو إفاقة، ربما ننقذ ما يمكن إنقاذه، ربما، ولكن كل هذه “الربمات” لن تعيد القتلى، لن تطبب الجرحى، لن تنسي أحمد الصغير ذا الأحد عشر عاماً رعب لحظة السجود التي تشظت في جسده تاركة إياه بجروح متناثرة وبقطع معدنية سابحة في حوضه الصغير. ربما وقد تصح الربما، وما أبهظ ثمنها هذه الربما، ربما تصبح الدنيا أجمل، والعقول أقل طائفية والقلوب أقل بغضاً وأحقاداً، ولكن كل ذلك سيتم، إن تم، دون هؤلاء الذين كانوا يحيون بيننا إلى يوم أمس، وما عادوا يحيون في دنيانا اليوم.
أنا من الجيل الآثم، أشهد اليوم نتاج إهمالي، كنا نرى بأم أعيننا البلد يعبأ بالطائفية، كنا نسمع بآذاننا تصاعد وتيرة التراشق الذي كان خافتاً في الدواوين والبيوت بداية ليصبح زاعقاً في وسائل الإعلام، بل وقاعات مجلس الأمة لاحقاً. كنا ندرس أبناءنا الطائفية والانقسام والتطرف لأنه المنهج، كنا ننجر إلى حوارات المريضة، ننسى أصل القصة ونهيب دفاعاً عن جهات نظرنا، وبدلاً من أن نقود الحوار إلى الأمان كنا ننقاد خلف حوارات الشر، ندفع عن أنفسنا الاتهامات، نتحاور حوار الطرشان، كنا نضحك إزاء البرامج الدينية المعبِّئة الجاهلة من كل القنوات ومن كل طوائف، تعالينا على الموقف وتجاهلناه وأهملناه، وها نحن، كلنا أهل الكويت، نذوق طعم العلقم الذي طبخناه، ننام على السرير الذي فرشناه بأيادينا.
ليتها تختفي إلى الأبد، كل الطوائف، كل المنابر، كل المناهج، ليتها تبيد عن بكرة أبيها كل الكتب، كل القصص، كل التاريخ، ليتها جميعاً ما كانت، وبقي الأبناء والآباء والأحبة الذين ذهبوا دون عودة. قد نتعلم درساً، وفي الغالب لن نتعلمه كاملاً، إلا أن الأكيد أن الموتى لا يرجعون، وأن الفقد يميتك وأنت حي، وأن الدشداشة متى ما تلونت باللون الأحمر لا يمكن أن تعود بيضاء من جديد.