“تناحة” بشرية

التاريخ الأوكراني الروسي تاريخ طويل شائك، لربما بداياته الجذرية تذهب للقرن السابع عشر ليتراوح في طبيعة وحدة أحداثه خصوصاً عند الوصول للثورة البلشفية ثم ليشتعل في زمننا المعاصر في 2014 حين غزت روسيا شبه جزيرة القرم وشجعت المقاتلين الانفصاليين على إشعال جذوة حرب مستمرة ذهب ضحيتها آلاف الأشخاص.

القصة تبدو متكررة واضحة المعالم، إلا أن قلبها شديد التعقيد خصوصاً مع التداخل الثقافي والاجتماعي الكبيرين بين البلدين.

التجربة المرعبة ليست غريبة تماماً علي ككويتية في الواقع، أن تهاجم دولة أكبر دولتك الأصغر دون أسباب عسكرية أو سياسية رصينة (هذا إذا كان للعنف أبداً أسباب رصينة)، أن تشكل هذه الدولة الأكبر باعث تهديد وخطر مستمرين.

أن تردد هذه الدولة ادعاءات ذوبان وطنك وهويتك في أرضها وهويتها، وأن تفشل “أنت” تماماً، رغم كل ما ذُكر، في أن تتخذ موقفا عدائيا تاما من هذه الدولة الأكبر ومن أهلها بحكم هذا التشابك الثقافي الكبير وهذا التداخل الاجتماعي والنَّسَبي الهائل وهذا الاشتراك التاريخي والجيرة الإنسانية الطويلين، هذه تجربة صعبة ومؤثرة وبالغة التعقيد. إنها حرب عسكرية بكل ما للكلمة من معنى ولكن في قلبها تشتعل حرب نفسية وروحية أقسى وأمرّ.

ولطالما روجت روسيا لدونية الثقافة الأوكرانية ولغتها مقارنة بالثقافة واللغة الروسية، حيث استمرت هذه الحرب الثقافية الاجتماعية الاقتصادية والنفسية مستمرة في تواز مع كل التحرشات الأخرى التي أيقظتها روسيا تجاه أوكرانيا على مر الزمن، سواء الحديث أو ما قبل الحديث.

وفي حين أن الأسلوب الدموي في التعامل العالمي كان ممدوحاً ومطلوباً في العصور القديمة وصولاً إلى القرن التاسع عشر، وفي حين أن التوجه الامبريالي التعنتي كان مبلوعاً لحين الوصول لمنتصف القرن العشرين، إلا أن هذه الأساليب لم تعد مقبولة في زمن الحقوق الإنسانية والسيادات الدولية والمنظمات العالمية للقرن الحادي والعشرين.

ورغم استمرارها بين الكثير من المجتمعات الدولية، فالبشرية ظاهرها متمدن وباطنها لا يزال يحمل الكثير من البدائية والتوحش، إلا أن فجاجة ووقاحة استعراض القوة وفرض العضلات على الآخرين اللذين كانا ديدن الزمن القديم لم يعودا مقبولين كلغة وأسلوب للتحاور العالمي، أو يفترض أنهما لم يعودا مقبولين في زمن تحددت فيه السيادات الدولية وتقدست فيه الخصوصيات الثقافية وألغيت إبانه كلمات مثل أقلية و”لغة شعبية” و”ثقافة فلاحية” لتصبح كل جماعة رغم، وأحياناً بسبب، قلّتها وكل لغة وكل ثقافة قيمة ومكسب للبشرية.

هذا كان وعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومؤسسة مثل الأمم المتحدة، فما خطب بشريتنا؟

لقد أُكلت أوكرانيا يوم أُكلت فلسطين، يوم أُكلت البوسنة، يوم أُكلت كل دولة وكل شعب وكل ثقافة من قِبل أخرى أقوى تسليحاً وأخطر علاقاتياً وأعنف تأثيراً عالمياً.

من يصدق أن الاحتلال العسكري لا يزال “وسيلة تعامل” بين دول مدنية أو شعوب متحضرة؟ ومن يصدق أنه حتى حين يقع هذا غير المصدق فإن العالم كله يقف متفرجاً؟ ومن يصدق أن تبلغ الفجاجة والوقاحة والبجاحة حد التلويح بالسلاح النووي الذي سيفنينا جميعاً بمن فينا المتبجح بحد ذاته؟ ومن يصدق أن البشرية كانت تعلم بحرب صناعة الأسلحة النووية منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، ولكنها بقيت تقف متفرجة، بل لتصبح الآن منبهرة في زمننا المعاصر بالكارثة المحيقة والمصورة في أفلام هوليوود “كدستوبيات” منتَظرة عدمية؟ ما هذه “التناحة” البشرية؟

في الأغلب تنحى الدول والجماعات الشمولية، التي لا يزال يقودها العسكر وتنظمها المخابرات، للغزو والحرب والعنف، فهذه لغة العسكرية التي لا تعرف الدول الشمولية لغة أخرى لتتحاور بها، وهي لغة إذا ما تلبّستها السلطة فإنها تحول البلد إلى سجن كبير لكل صوت معارض فيه ولكل محاولة تحرر حياتية تقع في حيزه، ليتحول هذا البلد بعدها فاتحاً فمه كتنين ناري يبتلع الدول والأفراد من حوله إذا ما استطاع لذلك سبيلاً.

الأمثلة كثيرة في زمننا الحديث والمعاصر، لربما أوضحها ألمانيا التي فقدت عقلها ورشدها السياسي والإنساني الطبيعي إبان النازية، العراق الذي تدمر إلى حد كبير بسبب الجنون العسكري والمخابراتي لفترة حكم صدام حسين، سوريا التي لا يزال أهلها يحاولون إبقاء رؤوسهم فوق الماء بسبب من التحجر العسكري العنيف لنظامه، مصر التي تغلق كل شبابيك الكلام وأبواب الحريات أمام أهلها حتى بتنا نخاف أن يكون من بداخل السجن من الشباب أكثر ممن بخارجه في زمن العودة للعسكرة المضاعفة هذه المرة.

هذه مجرد أمثلة كليشيهية لكثرة ما نكررها، لكن الأمثلة الأكثر تعقيداً والأعمق إخفاءً موجودة وبكثرة بين مجتمعاتنا الصغيرة المتناثرة اختباءً في ظل الحالات الكبيرة المعروفة لسوء حظ بشريتنا المسكينة.

نطالع مشاهد العنف، القصف في أوكرانيا، القصف في غزة، القصف في سوريا، القصف في اليمن، ننظر في مشاهد تَشَرُّد الروهينغا ومعاناة الأويغور، ثم نطفئ الشاشات ونذهب مع أحداث حياتنا اليومية، وكأن اسوداد الشاشات مؤشر على انتهاء الأسى وتوقف العذاب.

للتو شاهدت فيديو لفتاة أوكرانية تصنع قنابل مولوتوف وهي تقول بما معناه: “من كان يصدق أننا سنقضي عطلة نهاية الأسبوع في هذا العمل، ولكن ها نحن هنا الآن”، الأمر ليس بعيداً عنا، نحن لسنا بمعزل عن يد التجبر هذه، وكل مشاعرنا، نحن “البعيدين”، بالأمان هي مشاعر مخادعة وهمية، واسألوا الكويتيين الذين هم أفضل مثال على هذه المباغتة القدرية بوضع كان هو أبعد ما يمكن عن تصورهم.

لقد تخلت أوكرانيا عن سلاحها النووي في تسعينيات القرن الماضي وبمباركة أميركا آنذاك مقابل ضمان استقلالها وأمنها، إلا أنه لا استقلالها حُفظ ولا أمنها تحقق أصلاً حتى يستمر.

المشكلة المؤثرة لم تكن في تسليحها، ولكنها كانت في عقلية عسكرية عنيفة لجارتها التي قيَّمت التخلي على أنه ضعف، وهو تقييم ساهم العالم أجمع في تثبيته في العقلية الروسية العنيفة بتجاهله للمعاناة الأوكرانية وبتملصه من واجباته ووعوده (التي مثّلتها نيابة عن العالم القوى الأميركية والأوروبية) بحماية استقلالها وأمنها.

اليوم أوكرانيا تدفع الثمن الأكبر ولكن ليس الأوحد. كل البشرية ستدفع ثمناً ما بلا استثناء.