تحميل إغلاق

حقيقيون

تظاهرة لنساء لبنانيات بمناسبة يوم المرأة العالمي

حقيقيون

عُقدت قمة التنوع الديني والروحي الثانية في بيروت في يومي 18 و19 كانون الأول/ديسمبر الماضيين والتي أتت كجزء من “مشروع تعزيز التماسك الاجتماعي في المنطقة العربية” الخاص ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). جمعت عددا كبيرا من رجالات الدين الإسلامي والمسيحي وعددا آخر من الكتاب والناشطين والأكاديميين والصحافيين للتباحث حول الكيفية التي يمكن بها للمؤسسات الدينية ولرجالات الدين المختلفين أن يلعبوا الدور المنوط بهم في تعزيز التماسك والتسامح في مجتمعاتهم المختلفة.

لربما تبدأ المشكلة الأولى من حقيقة أن القائمين على الأديان المختلفة في الأغلبية العظمى منهم هم رجال، مما يجعل كل هذه الأديان بأفرادها ومؤسساتها تميل بجموح في أيديولوجياتها وعقائدها نحو الرجل ومصالحه.

ولقد كانت إحدى أهم التوصيات التي خرجنا بها من المؤتمر تفعيل دور النساء الريادي في مجال التفسير والقيادة الدينية وتعزيز مكانة المرأة ـ الداعية الدينية وتقوية موقعها القيادي في المجال وتعزيز الثقة بها.

إلا أن ما كان لافتا للنظر بشكل كبير، هو الفرق بين الخطابين المسيحي والإسلامي الذين أتيا على ألسنة ممثليهما من القيادات الدينية الحاضرة للمؤتمر. ففي حين استخدم معظم، إن لم يكن جميع، رجالات الدين الإسلاميين منصة القمة لذكر عظمة فكرهم العقائدي ومحاسن مؤسساتهم ورفعة موقف دينهم من المرأة تحديدا، حيث كانت هناك جلسة كاملة خاصة بموضوع المساواة الجندرية في الفكر الديني، فإن رجالات الدين المسيحيين كانوا أكثر واقعية وأكثر مباشرة وأكثر صدقا مع أنفسهم ومستمعيهم.

ربما تكون لهذا الصدق أسباب عدة تاريخية وفكرية ومناطقية وحتى عقائدية، إلا أن المحصلة كانت أن القساوسة الحاضرين تناولوا الواقع وخاطبوا المشاكل، أما الشيوخ فتناولوا المثاليات وتخاطبوا بالكليشيهات.

لم يكن هناك أسوأ من الاستماع لجمل مثل “المرأة هي الأم والزوجة والأخت” و”المرأة هي الدرة المكنونة” وأن هناك حاجة لحماية “العوانس” وأن من كان عنده بنات أو أخوات فأحسن لهن فحظه من دينه كبير وغيرها من الجمل، التي لا تعطي قيمة للمرأة إلا من خلال علاقتها بالرجل، ولا تتعامل مع واقعها وقضاياها إلا من خلال كليشيهات مستهلكة وبائدة.

إبان فعاليات القمة، وقف القس المصري الأب رفعت فكري معلنا أن حاجتنا اليوم هي ليست إلى قراءات دينية متسامحة للنصوص، فكلنا نعرف أن النصوص حمالة أوجه، كما قال، إنما حاجتنا هي إلى قوانين تحمي حرياتنا وأمننا وتثبت علمانية وحيادية مجتمعاتنا.

أما القس اللبناني الأب رياض جرجور فقد بدأ حديثه مشيرا إلى أن هناك دينا متحيزا بكل تأكيد، وهو دين من صنع الرجال، وأنه لا بد من “فك الارتباط بين الدين والأيديولوجيات التي تخدم مصالح فئة على حساب فئة أخرى”. سرد الأب عددا من الآيات الإنجيلية التي تكرم المرأة وتدعو للمساواة، إلا أنه ألحقها كذلك بقراءة عدد آخر من الآيات الإنجيلية التي تضعف هذه المساواة.

تناول الأب جرجور هذه الإشكالية بوضوح، مشيرا إلى أنها مشكلة قراءات مختلفة وأنه يجب إلغاء القوانين القائمة على القراءات المتعسفة للنصوص والتي لا تواكب الأفكار المعاصرة.

يقول الأب جرجور إن “المرأة التاريخية التي هي من لحم ودم وليست المرأة الرمزية، تلك هي التي تبقى ضحية الرجال” في إشارة إلى أن الخطاب الديني كثيرا ما يتحدث عن المرأة وكأنها مفهوم تجريدي وليست إنسانا حقيقيا. وأكد الأب جرجور في كلمته المؤثرة أن المرأة هي “المثال النموذجي للاغتراب” لأن جانبا من شخصيتها يطغى على بقية الجوانب والهويات، فتبقى هي “أم أو زوجة أو ابنة أو أخت” كما يُردد دائما، نسبة إلى علاقتها بالرجل، دون أن تكون لها شخصية واضحة ومستقلة مما يجعلها في غربة دائمة، كما فهمنا من حديث الأب جرجور، حتى عن نفسها.

قرأ الأب رياض جرجور بصوت واضح الآيات الإنجيلية التمييزية للمرأة، وطالب بإعادة القراءة والتفسير، وأصر على أهمية مواكبة الفكر الديني للزمن المعاصر، وأقر بجرأة بأن السائد هو دين متحيز صنعه الرجال، وأن الإصلاح يبدأ من هنا، من حيث موقع المرأة في كل الأديان.

نال الأب جرجور، كما الأب رفعت، كل احترام وتقدير القاعة والحضور، ليس فقط لجرأة وواقعية الطرح الذي احترم عقول المستمعين، ولكن كذلك لفاعلية الحديث ولتناوله المباشر لموضوع القمة من حيث كيفية تحقيق التواؤم والتماسك الاجتماعي في المنطقة العربية من خلال المؤسسات الدينية.

لم يستخدم هؤلاء منصة القمة ليترافعا مرافعات غراء عن دينهما. لم ينمقا الكلمات ويرشا التعابير على وجه الجُمل تغنيا بجمال فكرهما العقائدي. هبطا لواقع الحال ولآلام الناس ولمعاناة المرأة تحديدا، فاحترما وقت ومجهود وحضور الناس المختلفين من حول العالم، وخاطبا المشكلة وطرحا حلولها، دون أن يتفاديا ذكر المطبات السلبية التي وقع فيها الفكر المسيحي ودون أن يحسنا مظهر المشكلة الذي عادة ما يزداد قبحا بالتجميل الكلامي و”الطمطمة” الفكرية.

لا بد أن أذكر أن حديث كل الحضور أتى متوائما ومفاهيم السلام والمحبة بين الشعوب، وأن جميع الشيوخ المسلمين والقساوسة المسيحين وبقية الحضور كانوا يتحدثون عن نشر المحبة وتعزيز التماسك والتسامح (مع إشكالية استخدام هذه الكلمة) إلا أن الواضح في هذه القمة كان واقعية الخطاب المسيحي ومباشرته وجرأته وخصوصا في موضوع المرأة، وكليشيهية الخطاب الإسلامي ومناورته بل وأحيانا نرجسيته.

هنا تكمن المشكلة الحقيقية، إذا أردنا تحقيق تغيير حقيقي ملموس في فاعلية الخطاب الديني في المحيط الاجتماعي، فلا بد من تغيير خطابه للمرأة وعن المرأة، لا بد من تخفيف درجة النرجسية ورفع درجة الواقعية وإنهاء الخطاب الكليشيهي تماما. ولو لم نستطع كل هذا، واستطعنا أن نستكمل جلسات مؤتمر حوار أديان دون أن نستمع لجملة “المرأة هي الأم والأخت والزوجة” أنا شخصيا سأعتبر هذا إنجازا للخطاب الديني الإسلامي.

ليس الغرض من المقال هذا مقارنة الفكرين الإسلامي والمسيحي، فكلاهما يحويان قراءات وتفسيرات تمييزية ضد النساء، كما وليس الغرض كيل المديح لرجالات الدين المسيحيين، فوصولهم الى هذه المنطقة الرفيعة من الحوار إنما هو نتاج تاريخ وزمن ودماء سالت وسياسات تغيرت، كلها دفعت لتغيير الفكر وإصلاح الخطاب؛ إنما الغرض هو تبيان مشكلتنا الحقيقية عميقة الجذور والتي تبدأ من هذه النقطة البسيطة المباشرة: رفضنا لمواجهة الحقائق وأداؤنا التمثيلي في كل مرة نجتمع لحل مشكلة، حتى يتحول الاجتماع لاحتفال بروعتنا عوضا عن فرصة لمعالجة جروحنا.

نحتاج إلى مواجهة مع الذات، وأتت هذه الفرصة مؤخرا حين وفرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مشكورا، من خلال قمته المذكورة، ليستغلها الخطاب المسيحي بحكمة ويتجاهلها الخطاب الإسلامي بسذاجة، فهل نستغل الفرصة القادمة ونكون حقيقيين؟

اترك تعليقاً