حدادا على ضحايا الطائرة الأوكرانية في كندت
شطرنج
منذ صغري وحتى وقت قريب، لم أكن أبدا أخاف ركوب الطائرات ولا أفكر أبدا في حالة تعلقها بين الأرض والهواء. ومنذ سنوات قليلة بدأ هذا الفزع يستبد بقلبي لسبب غير معلوم لي، رغم فهمي العلمي للصعوبة الجمة لسقوط الطائرات وللأرقام والإحصاءات التي تجعل من الإصابة في حادث سيارة أقرب بكثير من الإصابة في حادث طائرة.
أخبرني البعض أنه بسبب تجاوز سن الأربعين، وأخبرني آخرون أنه لربما خوف تزامن مع قدوم آخر العنقود ابنتي ياسمين والذي أشاع في نفسي قلق دائم من تركي لها وحيدة في الحياة.
لم أقتنع بأي من هذه الأسباب ولا يكمن في نفسي أي تفسير فعلي أتعمد عدم مواجهته لهذه الحالة، لربما فيما عدا تفسير يحضرني بين فترة وأخرى لتزايد تفكيري الوجودي الحالي، في معنى الحياة وفي عدمية الموت.
لذا، كان لتغريدة بسيطة قرأتها قبل أيام أثر حاد في نفسي. منذ أن قرأت للمغردة شروق تقول على تويتر “كلنا راكبين الطيارة الأوكرانية” وأنا أعيش حالة توتر على غير مقدار الكلمات القليلة التي استفزتها.
بلا شك، نعيش نحن في المنطقة حالة تهديد مستمرة بوقوع حرب ما، بحدوث ضربة عسكرية أو هجوم مسلح ما، بتفعيل تهور نووي ما منذ الثلاثين سنة الماضية وتزيد ولأسباب متنوعة ومختلفة وإن كانت تصب في النهاية في نفس النتيجة التهديدية: اشتعال نار جسيمة في إقليمنا المنكوب. لنا ما يزيد على الثلاثين سنة تهديد ووعيد حيث نعيش في وسط مثلث من الأنظمة المتهورة، إما اعتقادا أن عقائدها ستعليها وتنصرها مهما كانت قوة الطرف المقابل أو اطمئنانا إلى بعدها الجغرافي الذي يمكنها من أن تلقي القنبلة على رؤوسنا وتسرع مبتعدة أو اعتمادا ساذجا على مناصرات أطراف متورطة تلعب سياسة في إقليمنا من بعيد.
بعد تحرير الكويت من الغزو الصدامي في 1991 أتذكر مشاعر القلق والخوف الحقيقيين الذين استتبا في القلوب، وهي مشاعر أخذت في التصاعد إلى أوائل سنة 2000 حين أُرسلت بعض القنابل العراقية إلى الأراضي الكويتية والتي أثارت فزعا مستحقا في صفوف شعب لم يعرف هذا النوع من العنف مطلقا في تاريخه الحديث. إلا أن سقوط صدام وانتهاء هذه الحقبة العنيفة أسس لشيء من الشعور بالأمان الذي سرعان ما اكتشفنا، في منطقة الخليج، أنه مؤقت زائف.
لا تتوقف الأحداث في المنطقة، لا يستتب الشعور التام بالأمان لنا مؤخرا، أعتقد أن آخر شعور حقيقي بالأمان التام اختبرته حين كان عمري ستة عشر سنة، في نهايات الثمانينيات، حين كانت الأحداث أهدأ أو في الغالب حين كنت أنا أصغر من أن أفهمها تماما.
من بعدها، بدا أن أبواب جهنم فتحت ثم فقدت، فلم يعد من سبيل لإغلاقها أبدا. ورغم ذلك، ومع مرور الزمن واعتياد التهديد ووقوع ما لم يكن متخيلا في يوم، مثل وصول قنابل إلى أرض الكويت؛ احتلال تنظيم “داعش” للكثير من المناطق العراقية القريبة جدا وسماعنا بأحداث عادت بنا إلى زمن الغزو والسبي والغنائم؛ قيام الثورات العربية تناثرا في عالمنا العربي؛ الالتفاف على الثورات والعودة لنقاط البدء؛ وقوع الكارثة السورية؛ ظهور الانقسام الذي فضح الطائفية الكامنة بين مؤيدي الثوار البحرينيين ومؤيدي الثوار السوريين؛ الخلاف الخليجي وما تبعه من نزول قوت درع الجزيرة في مواجهة بحرينية، وسيطرة الشعور بوجود هذه القوات لمواجهة أي نشاط ثوري في المنطقة الخليجية؛ العودة لعصر القمع في مصر؛ مقتل جمال خاشقجي في قلب قنصلية بلده؛ وصولا إلى الضربة الأميركية الأخيرة والتي أدت إلى مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وكل ما تبعها من أحداث نهاية بالجريمة البشعة لإسقاط الطائرة الأوكرانية.
كل ذلك حصل في ظل استعمار بشع في قلب المنطقة العربية يشكل تهديدا مستمرا ويتسبب في انقسامات عنيفة ضاربا الشرق أوسطيين بعضهم ببعض كما أحجار الشطرنج.
ورغم كل ذلك، أصبحت هناك حالة من فقدان الشعور المستحق بالخوف الحقيقي، يسيطر القلق أحيانا ربما، أما الخوف العميق الغائر الذي تستدعيه أوضاعنا، فلم يعد حقيقة ظاهرا لا على سطح أفعالنا ولا أقوالنا.
نعم، مع مرور الوقت وتراكم الأحداث فقدنا هذا الشعور المستحق بالخوف، وبدأت حالة من اللامبالاة الناتجة عن الاعتياد تحل محله، حيث أننا نعيش هذه التقلبات القاسية باستمرارية جعلت من امتداد الشعور بالخوف حالة مستحيلة. إلا أن تغريدة شروق فاجأتني بإحياء هذه المخاوف الكامنة في نفسي والتي دفنت أسفل سنوات من الاعتياد وطمأنة النفس والاستسلام لقدر لا قدرة لي على تغييره.
هذه الجملة القصيرة، ربما لارتباطها بمخاوف حقيقية وجودية وبقائية في نفسي، بدت مرعبة في واقعيتها، في مدى تمثيلها لحقيقة الوضع بأكمله، كلنا معلقين في الطائرة الأوكرانية، كلنا إما على وشك الاصطدام بالأرض أو استقبال صاروخ منطلق في الهواء.
منذ قراءتي للتغريدة يجوس في معدتي هذا الشعور بالخوف العارم القابض الذي يدفع بالطعام والهواء للأعلى لا للأسفل، حالة مستمرة من الغثيان التي تتسبب بها عادة الطائرة بإقلاعها وهبوطها والمطبات الهوائية التي كثيرا ما تصادفها.
هاج رعبي وأنا أتخيل نفسي معلقة في الهواء أراقب نارا تشتعل في أحد محركات الطائرة، ثم ماجت نفسي بمخاوف لم أختبرها منذ زمن وأنا أستشعر تطابق المقاربة، ركاب الطائرة الأوكرانية وهم على وشك الارتطام ونحن في إقليمنا ونحن على وشك الاحتراق، لا فرق حقيقي سوى أن الحالة الأولى تنتهي بسرعة لحظية والحالة الثانية تمتد تعذيبا وإرهابا.
أرعبتني الصورة، أرعبني تقاربها، وأكثر ما أرعبني هو السطحية البادية لطريقة عمل عقولنا، لربما نتاج كل ما مر بنا من أحداث، والتي ما عادت قادرة على تقييم الخطر أو استشعاره أو تقييم دورنا في حدوثه أو تفعيل مقاومتنا له ولو، بأضعف الإيمان، بالتوقف عن إشعال الحوار الطائفي بيننا الذي عاد مجددا جليا ملتهبا منذ مقتل سليماني.
نتبادل الاتهامات لإعلاء مذهب على مذهب، ولإثبات موقف تجاه موقف، في خضم ما تتعلق الرؤوس النووية فوق رؤوسنا، وفيما الطائرة الأوكرانية التي تحملنا جميعا تتجه بكل قوتها نحو الأرض، حالة فصام شديدة، غياب تام عن الحقيقة الواقعة.
لا زلت غير قادرة على إعادة تغريد كلمات شروق، خائفة من الضغط على “الريتويت” وكأنني إذا أعدت إرسالها فعلتها بشكل ما. خطوتي الوحيدة في حماية نفسي ومن أحب هي ألا أعيد تغريد كلمات شروق، فصام وغياب عربيين بامتياز.