تحميل إغلاق

تحت السجادة

تحت السجادة

هذه الجائحة كشفتنا، كأنها عاصفة جاءت بأعاصيرها مكتسحة الأرض التي طالما غطتها طبقات رمل وطين، لتجتث الزرع وتنفض هذا الرمل وتقلع الطين من مواقعه، لتتعرى الأرض وتنكشف العورات، ويا لهول ما يتكشف كل يوم وفي الكثير من بقاع الأرض.

وذات زمن حين كانت هناك معارضة في الكويت، كنت أعتبر نفسي في سياق توجهها لكنني لم أجد نفسي حقيقة في خطابها. كان الحديث برمته يصب في الفساد، وكان تعريف الفساد ينصب على نهب الأموال، وهذا الخطاب لم يكن مجزياً ولا مقنعاً. الفساد المالي هو الأوضح، هو الأفضح، لكنه ليس الأخطر، فالفساد المالي نتيجة لا سبب، عارض للمرض لا معد به.

كنت أتلفت للاتجاه الحكومي فأجد فساداً كما هو الحال في كل دول العالم، مما يستدعي وجود قوى مُعارضة لتتوازن الموازين وحتى لا “يطيش” هذا الفساد، ولكنني حين كنت أتلفت للاتجاه المعارض لم أكن لأرى صورة أهون.  كان هناك تطرف ووسائط وعلاقات مشبوهة واستغلال ديني وتحولات مواقف مريبة جعلت المصيبة فادحة.

الفساد الحكومي عادة ما يكون واضح ومباشر وركيك الخطاب، فيم الفساد المعارض غالباً ما يكون غائم متلون عاطفي الخطاب. كنا مجموعة من المعارضين نقف في المنتصف، لا نحن هنا ولا نحن هناك، نحن تحديداً هذه الفئة التي “حتبات في الشارع” على مقولة عادل إمام.

ومن يومها ونحن “نبيت في الشارع،” لا مأوى لنا ولا سكن لقلوبنا ومشاعرنا، لا أيديولوجية تضفنا ولا توجه سياسي يستر علينا، حالة من الضياع التام. ثم أتت مشاكل الساحة الحالية لتصب الزيت على النار، سرقات مليارية، غسيل أموال، تسريبات، تجسس على المواطنين، تحزبات، قصة بعد قصة تركتنا مشوشين، فاقدين القدرة فعلياً على تحقيق رد فعل مناسب لهذه الأحداث المفصلية المرعبة.

أسأل نفسي، هل كل القصة في السرقات؟ أكانت محاسبة اللص ومتابعة السرقات المالية هي المستوجبة قبل محاربة صور الفساد الأخرى؟ كيف لك أن تحارب فساداً مالياً صاغته فسادات أخرى في الذمم والضمائر، أليس ذلك أشبه بوضع ضمادة صغيرة على جرح أظهر العظام من تحت لحمها؟ تستطيع بسهولة التعرف على فساد السلوك، تشير إليه، تحاسب صاحبه وتقلب الصفحة ولكن كيف تتعرف على فساد الأخلاق؟ كيف تدافع عن بلدك ضد فساد ضمير؟ هذه فسادات تجريدية، لا تمييز واضح لطبيعتها، لا نتائج مباشرة سريعة لممارساتها، هي فسادات تحتاج نتائجها لوقت وصبر، وها نحن نجني اليوم ثمار فساد زرع عميقاً بليل وضرب عالياً بجذوعه في عز نهار مريع.

هذه ليست حالة كويتية ولا إقليمية، ولا حتى عربية، تبدو كأنها حالة آسيوية أكثر؟ وكأن نصف الكرة الأرضية الغربي كنس فساداته بمقشات التجارب والاستعمارات والجرائم الماضية وردفها تحت سجادة نصف الكرة الأرضية الشرقي. وهكذا كلما هبت هبوب قوية، طارت السجادة وتطايرت الأوساخ في عيوننا.

لست هنا بلائمة للغرب مباشرة، فنظرية الشماعة قديمة ومسكينة ومضحكة، إنما أنا أسرد حالة تاريخية طبيعية، تتحقق صدفة أكثر منها عمداً. هؤلاء البشر الذين يتعلمون الدرس ويتحركون للأمام دوماً ما يخلفون خلفهم آخرين ما توفرت لهم فرص التعلم، أثقلتهم أحمال “المتعلمون” ومخلفاتهم، عرقلتهم استعمارات “المتعلمين” وانتهاكاتهم التي رغم أنها من الماضي البعيد الا أن ذيولها لا تزال تلتف على الأعناق، فتجدهم غير قادرين على التحرك للأمام، غير متمكنين من تعلم ذات الدروس، غير قادرين على امتلاك ذات بعد البصر والرؤية البعيدة والتفكير المنطقي التي صنعتها التجارب والخبرات “للمتعلمين”.

لربما الغرب “المتعلم” ليس سبباً مباشراً حديثاً في مآسينا، الا أن استعماراته وحروبه وعنفه وتواريخه الماضية التي تعلم منها ورحل عنها مخلفاً لها في منطقتنا لا تزال تثقلنا، لا تزال تزكم أنوف مجتمعاتنا. هذه المخلفات، متحدة مع طبيعتنا الشرقية الغرائبية التي ترى الفضيحة مقبولة ما دامت مستورة والتي تستطيع أن تجد مخرجاً لكل كارثة بفتوى أو بتبرير اجتماعي أو بمَنطَقة أبوية، تجثم على صدورنا وتبقينا في سجن فساد كبير وغريب ولا نهائي.

نحن لم نتعلم الدرس، لذا لا نزال نتصرف بطرق قديمة في عالم حديث، حداثته واضحة محرجة خصوصاً لنا نحن “إرث البشرية” البائد. حتى الفساد لا نحسن تزيين وجهه القبيح ولا نجيد إخفائه. كل تهورنا وفسادانا وخرائبنا تحمل من الحمق والتهور أكبر بكثير مما تحمل من الجدية والإحكام. دول صغيرة، أموالها كثيرة، كم من الوقت تحتاج الفضائح كي تنكشف؟ في عصر التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة كم من الجهد تحتاج الخفايا كي تظهر للعيان وتنتشر كما النار في الهشيم؟ يا لغباء وحماقة فاسدونا، حتى فسادهم متخلف قديم.

بيروت انفجرت بقنبلة نووية، الكويت انفجرت بقنبلة فساد تسريبية “غسيلية”، اليمن انفجرت بقنبلة حرب خلفتها بوباء انتهى في العالم أجمع، سوريا انفجرت بقنبلة فساد إدارة وتحالفات خلفتها بكارثة نزوح لا مثيل لها في العالم أجمع، السعودية انفجرت بقنبلة خاشقجي التي ما عاد يذكرها أحد، الإمارات انفجرت بقنبلة التطبيع التي ما عاد أحد يتكلم سوى عنها، قطر و”جزيرتها” الموقوتة، مصر وعسكريتها الموقوتة، العراق، ليبيا، وفلسطين. لا وجود للأمان حين يتخذ الفساد له مكان في كل مكان.

اترك تعليقاً