آيل للسقوط
عندما تضرب الأزمات، سواء الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية منها، الشعوب، يتطلع القياديون الواعون إلى الثروة البشرية كسبيل للخلاص، وتتطلع عين الحكمة إلى مقدار التطور الإنساني، ومدى انتشار الوعي، ومدى الجاهزية بالعلم، ومدى التأهل بصفات المواطنة النبيلة كالحرص على العمل والمحافظة على البيئة دون الحاجة إلى مراقبة أو عقوبة. نحن نمر في الكويت بأزمة انخفاض أسعار نفط مخيفة، هي مخيفة ولكنها ليست طارئة ولا جديدة، فالأزمة كانت تُرى في الأفق البعيد ومنذ زمن، كما أنها تكررت منذ ثمانينيات القرن الماضي وإلى اليوم كما ورد في افتتاحية الجريدة ليوم الجمعة الماضي والمقتبسة من مجلة “الاقتصادي الكويتي”.
لربما تتأتى مخاوفنا من شح مصادرنا المالية غير النفطية، فالكويت تخلت تقريباً عن المشاريع العالمية العملاقة التي كانت لها في فترة ما قبل الغزو لأسباب عدة ليس أقلها شبهات السرقات التي أصبحت تنبؤات دورية تحوم حول أي مشروع يتم اقتراحه، كما أن البلد فقير طبيعياً، فلا نبات ولا معدن يمكن لهما أن يؤسسا لمشروع مصدر دخل رئيسي، حتى ما توافر منها للبلد بوفرة، الطاقة الشمسية، ليست سوى مصدر للشكوى والتذمر، فهذه الطاقة التي كان يمكن لها أن تضيء الكويت بأكملها وعلى مدار السنة هي في الواقع طاقة محاربة منبوذة، يراها أصحابها على أنها عائق يجب تخطيه لا مورد يجب استخدامه. ساحلنا البحري، وما أدراك بما حدث لساحلنا البحري، اختفى هذا الساحل الجميل ودُحرت بيئته الطبيعية الغنية تحت أطنان الأسمنت وبسبب المصدات التي خلقت عازلاً بين المدينة وبحرها، حتى ما عدنا نشتمّ رائحة البحر أو نرى زرقته حتى ونحن نقود سياراتنا على شارع الخليج. جزر الكويت الجميلة دُمرت بيئاتها الطبيعية، تلك البيئات التي تعتبر الأغنى في العالم، بيئة ما بين الماء والأرض، وليس آخر التخريبات هو الجرف الذي حدث في أم المرادم قاتلاً آلاف الطحالب البحرية ومخرباً آلافاً غيرها من المساكن البيئية الطبيعية لحيوانات البحر التي كانت تحافظ على توازن البيئة.
فمن بقي؟ البشر. ولطالما كان الكويتيون مميزين من حيث التأهيل البشري، فنحن مؤهلون بالتعليم، ذوو متوسط معيشي مرتفع، نعيش في ظروف مريحة بالنسبة إلى أغلبنا، كما أننا مجتمع منفتح، متوافر الحريات نسبياً، مطّلع على ظروف العالم، مشارك فعليّ في الأحداث الدائرة فيه، إلا أننا لا يمكن أن ننكر التدهور المستمر للتأهيل الإنساني منذ سنة الغزو وإلى اليوم. لقد هبطت أسهم الإنسان في الكويت عموماً، فقد ساء التعليم إلى حد أصبح مهدداً فعلياً ومؤثراً حقيقياً في تكوين النشء، وها هي العنصريات والتطرفات والانقسامات العنيفة تتبلور أمامنا كنتاج لهذه السنوت الخمس والعشرين من التعليم الآيل للسقوط. ومع انخفاض مخرجات التعليم، وبدلاً من أن تنظر الحكومة في الأسباب والعلاجات قررت أن تخفض التوقعات ومعها متطلبات التعليم الجامعي أو ما يعادله. بالعموم تم تخفيض نسب القبول للطلبة في المؤسسات التعليمية المختلفة، فأصبح تقريباً كل طالب يقدم على بعثة داخلية أو خارجية يتم منحه إياها، اللهمّ ما عدا طلبة الطب حسب علمي، فهؤلاء لا يزال هناك تدقيق في منحهم البعثات الخارجية. تحول التوجه العام في المؤسسات التعليمية من تخريج أفضل المستويات إلى تخريج أكبر الأعداد، فالأعداد متكاثرة والكراسي قليلة، والكمّ أهم من النوع. وفي عمله الحكومي، يكفي الكويتي أنه كويتي حتى يضمن وظيفته التي من أصعب الصعاب أن يتم فصله منها، وليس منا فرد في هذا البلد لا يعرف واحداً أو عشرة أو مئة يتحصلون على رواتبهم الشهرية دون أن يعرفوا حتى موقع مقار أعمالهم، كلنا وقفنا ذات يوم أمام صندوق تسجيل في مستوصف أو في جهة وزارية أو غيرها من الجهات الحكومية كاظمين غيظنا، والموظفون أو الموظفات يفطرون إفطاراً هنيئاً أو ينشغلون بمحادثة سمجة مرتفعة الصوت أو يتلكؤون فقط للتمتع بالسطوة اللحظية على المُراجِع. هذا المثال المصغر للدائرة الحكومية هو السائد اليوم، ولذا نحن دولة لا يحدث فيها شيء، وكأن الزمان نسيها في أواخر الثمانينيات، فبقيت على ما كان عليه آباؤها. نحن في لحظة خطر ليس لأننا كنا لا ندري بأن المشكلة النفطية قادمة، وليس لأننا لم نختبرها من قبل ولكن لأننا، وعلى الرغم من المؤهلات العديدة الموجودة في البلد، غير مؤهلين جماعياً، وغير مستعدين كشعب، ومثقلون بعنصريات فرقتنا ومعضلات سياسية قسمتنا بعد القسمين أربعة أقسام. خسارتنا، يمكن لنا أن نكون أكثر من ذلك بكثير.