2024
يعتبر انعدام الجنسية أحد أسوأ أنواع الحرمان الإنساني بطبيعته ومعناه وتبعاته.. وتعتبر الهوية أحد أهم الحقوق الإنسانية بالنسبة للفرد المعاصر، والحرمان منها له تبعات تتفوق بكثير على مجرد الحقوق المدنية، حرية التنقل، الأمان الاقتصادي والاجتماعي وغيرها.
للحرمان من الهوية تبعة نفسية عميقة تخلف أجيالاً معجونة بالقهر، موصومة بالغربة، محرومة من الشعور بالحب لأرض ومنطقة جغرافية، هذا الحب الغريب، والذي هو لربما غير منطقي، ولكنه حب مزروع في بيولوجيتنا ككائنات تسعى للانتماء والتعبير عن الولاء.
يوجد اليوم ما يفوق الاثنى عشر مليون عديم جنسية حول العالم، تشكلت حالات حرمانهم لأسباب مختلفة، منها الحروب ومنها العنصريات ومنها الصدف البحتة ومنها الأقدار الغريبة التي أوقعتهم في حفر عميقة بين التعريفات والتوصيفات السياسية والهوياتية المختلفة الحديثة، فلا هم عديمو جنسية ولا هم مواطنون ولا هم أجانب ولا هم لاجئون ولا هم مهجرون، هم أشخاص أوقعتهم ظروفهم وأقدارهم بين كل هذه التوصيفات ليتوهوا للأبد في دهاليز سراديبية للتقسيمات الحداثية للدول وحدودها وسياساتها، التي ظهرت كلها بعد الحرب العالمية الأولى.
والحرب العالمية الأولى هي الكارثة الإنسانية الأفظع في تاريخنا البشري القصير، كارثة لا نزال نعاني من تبعاتها ومخلفاتها، والتي أشدها وأصعبها هي حالات انعدام الجنسية والتي تجلت بوضوح بعد أن بدأت الدول ترسم وتؤمم حدودها وتعطي صكوك الانتماء لمن حالفهم الحظ وتوافقت أوراقهم. كم من بشر وقع في أخاديد النظام السياسي المرسوم آنذاك، ليتوهوا عن المكان ويتخلى عنهم الزمان ويصبحوا بشراً غير معرفين وغير محسوبين على أي أمة أو دولة.
الغربة حارقة، فما البال بغربة على أرض ولدت عليها ولم تعرف غيرها، هذا النوع من الغربة هو واقع الكثير من عديمي الجنسية حول العالم، هؤلاء الذين ولدوا على بقاع جغرافية ترفض ضمهم أو مجرد الاعتراف بهم.
في منطقة الخليج تنتشر حالات انعدام الجنسية لأسباب عدة، لربما أهمها هو عدم الاستقرار الناتج عن الطبيعة التنقلية لأهالي المنطقة الذين كان البعض منهم بدواً رحل منذ ما قبل القرن العشرين والذين لم يستقروا في مكان واحد حتى بعد أن جد القرن في التقدم وبعد أن صنع دولاً وحدوداً رفضت أن تضم هؤلاء المتنقلين بينها.
هناك كذلك أسباب أخرى كثيرة لانعدام الجنسية في الخليج، منها الجغرافي ومنها السياسي ومنها التمييزي ومنها الفكاهي “الحزين” في الواقع: خلافات أسرية طفيفة أو عميقة، نزاعات سخيفة أو أخطاء تافهة، كلها خلقت كذلك حالات انعدام جنسية خطرة لا يزال أصحابها، ولا نزال كمجتمعات كاملة، نعاني من تبعاتها اليوم.
في الكويت يعاني عديمو الجنسية، أو كما جرت تسميتهم “البدون”، من إجراءات شديدة التعسف، أسوأها الضغط المستمر عليهم حرماناً من الحقوق الإنسانية الرئيسية لإرغامهم على إظهار أوراقهم ومستنداتهم الأصلية التي هي على الأغلب غير موجودة أصلاً.
أدت هذه المساومات الخطرة إلى حرمان عدد كبير من البدون من العمل والتعليم وفي بعض الحالات من الرعاية الصحية المطلوبة ومن كل الحقوق المدنية المبنية على الهوية، كما أنها قادت لارتفاع مخيف وخطر في حالات الانتحار بين الشباب (ولربما بشكل غير معلن الشابات) البدون، لانتشار خطر الأمية خصوصاً بين الإناث، ولاستقواء ظاهرة أطفال الشوارع الذين يبيعون بين السيارات في أوضاع خطرة ومخيفة.
تضعضع المجتمع “البدوني” في الكويت إلى حد كبير مثقلاً بالغربة عن أرض ولد أفراده عليها، متأثراً بالنفور والعزل من بقية المجتمع الذي شحنته البروباغندا الحكومية بالخوف والتوجس تجاهه كمجتمع “أجنبي استغلالي غريب”، ملزماً بانتهاجه منهجيات غريبة وغير صحية اجتماعياً أو نفسياً لتوفير احتياجات المعيشة اليومية الأساسية.
لقد حولت الكويت شريحة كاملة من مجتمعها تعيش وتتعلم وتستقبل الخدمات القليلة الضعيفة على أرضها، من شريحة فاعلة وقوية ومنتجة تنتمي في أغلبيتها للطبقة الوسطى إلى شريحة فقيرة معدمة أمية تعاني من الأمراض الجسدية والنفسية مما دفع بالكثير من شبابها للانتحار، أصغرهم، علي، طفل في الحادية عشر من عمره، وجد معلقاً في مروحة غرفته.
ليس الحال بأفضل في بقية دول الخليج، ولكنه مستور أكثر، فالحريات الإعلامية النسبية في الكويت، والديمقراطية المترنحة المتوفرة للمجتمع، جعلت الصوت الكويتي أعلى في شأن عديمي الجنسية، مما حماهم بعض الشيء بكشف أوضاعهم إعلامياً.
المخيف هو التكتم التام تجاه أوضاع عديمي الجنسية في بقية دول الخليج والعالم العربي عموماً، الذين لا نعرف عنهم سوى أقل القليل والذين ليس لديهم هوية أو انتماء أو شكل قانوني يحميهم. يحتاج العالم لأن ينتبه لهؤلاء الغائبين الحاضرين، المخفيين في أخاديد الحداثة السياسية، الذين لم يجدوا لهم مكاناً في نظام مدني عالمي يدعي الإنسانية ويصر على شمولية كل البشر في المنظومة الحقوقية.
حددت الأمم المتحدة سنة 2024 لتكون السنة الهدف لإنهاء انعدام الجنسية، إلى أن تحل هذه السنة وعلى أمل حل هذه المعضلة الإنسانية في السنة الموعودة، كيف سيحيا هؤلاء الاثنى عشر مليون إنسان، بل أحياناً السؤال المرعب الحزين هو كيف سيموتون؟