نمل أسود
يهبط الرجل، وتحديداً الرجل، هبوطاً مدوياً ما أن يقول جملة مثل «ماذا يقول عنا الناس»، تتقزم روح هذا الرجل سريعاً، شيء ما يتضاءل في فحواه، في ما يصنعه كإنسان وكرجل لا ينفك يتبرج برجولته وقوته وكلمته وقوامته على المرأة في حياته. مثل خرقة مستعملة مبللة، تتضاءل شخصية هذا الإنسان، تنكمش في حيز صغير من الخوف: الخوف من كلام الناس، الخوف من أحكامهم، الخوف على «رجولته» من تقييماتهم، خوف فاجع يأخذ عليه نفسه تجاه رجولته هذه غير مدرك أن أول ما يكمشها ويصغرها ويبهذلها هو خوفه هذا تحديداً دون غيره.
لربما يبدو المقال منحازاً، معجوناً بالأحكام غير العادلة والتي لا تأخذ في إعتبارها ظروف الرجال والضغوطات التي يتعرضون لها والعادات والتقاليد والمفاهيم الدينية التي تثقل كاهلهم وتحكم تصرفاتهم، ولكن، وكما لم تعد ذات التبريرات، من الضغوط الى العادات الى المفاهيم الدينية التي تثقل كاهل المرأة وتعطل تحررها ومقاومتها وثورتها، ناجعة ناجحة في تبرير الإستسلام، كذا هي هذه التبريرات لم تعد ناجعة في تبرير الطغيان الذكوري المغلف بالخوف، لم تعد قادرة على حماية كرامة الرجل من ذل الرعب الذي يسيطر عليه باستمرار تجاه كلام الناس والذي يشكّل، في عقليته، سمعته وكرامته وشرفه، هذا الشرف الذي تحول الى مفهوم هلامي لا معنى له ولا تعريف حقيقي يحكمه ويوضح أطرافه. كل الحياة شرف الرجل، وكل مسؤولية حماية هذا الشرف تقع على عاتق المرأة. كل تصرفات الرجل، مهما ساءت وابتذلت وانحدرت الى شهواته ورغباته، لا تؤثر على شرفه، وكل تصرفات المرأة مهما صغرت وخفيت وخصتها بذاتها، تؤثر على شرف الرجل وتهدده بل وتوصمه. كيف يكون مفهوم الشرف هذا خاصاً به وحده ولكنه غير مسؤول مطلقاً عنه من خلال تصرفاته؟ كيف يكون هذا المفهوم لصيقاً به ولكن مهمة حمايته منوطة بالمرأة؟ هو الفصام الفكري العام.
ما لا يعرفه الكثير من الرجال أن أكثر ما يشكل شخصية الرجل وقوته في عيني المرأة صحية الروح والنفس هو ثقته بنفسه. هذا الرجل الذي يخطو واثقاً، لا يهزه كلام الناس، لا ترهبه أحكامهم، صادقاً مع نفسه، واضحاً في حياته، لا يعيش في بلده بوجه ويتنزه في خارجه بوجه آخر، لا يفرض على زوجته أو إبنته في مجتمعه مظهراً أو منهجاً ويتراخى في تمسكه بهما في المجتمع الغريب عنه، رجل لا تشكل شخصيته أحكام الناس، لا تشكل تصرفاته آراءهم، لا تحدد خطوه أحاديثهم ونظراتهم، رجل هو الذي يصنع شخصيته بقناعاته، يشكل تصرفاته بمفاهيمه الخاصة، يحدد خطواته حسب الطريق الذي يريد وبه يؤمن. هذا الرجل هو الوحيد القادر على أن يظهر بالصورة التي يتمناها كل الرجال، هو الوحيد القادر أن يبدو بطلاً عظيماً مغواراً، هو الوحيد القادر أن يتشكل شجاعاً فارساً يقف في وجه النمّامين الصغار وأحكامهم الرخيصة، هو الوحيد الذي تحترمه المرأة فعلياً، الذي تخشاه حقيقة، تخشى فقدان إحترامه ورضاه ومحبته.
كلما شاهدت رجلاً مكفهراً، يستخدم إكفهراره لإثبات قوامته أمام الناس، أينما سمعت برجل يرغي ويزبد ويعنف حماية «لشرفه» أمام الناس، تخيلت كلام هؤلاء الناس كأنه جيش من النمل الأسود الكبير يمشي على جسد هذا المخلوق الضعيف المسكين المستلقي على ظهره غير قادر على صلب طوله، غير متمكن من حماية نفسه، لا رابط حقيقياً يكبله الى الأرض سوى مخاوفه وضعفه وقلة حيلته أمام نمل أسود ضعيف، لا يحتاج لنفضه عنه سوى أن يقوم مستوياً على قدميه، يصلب ظهره، ويرفع رأسه…في إتجاه الشمس.