نصف انسان
نحن البشر، مخلوقات غريبة، حديثة جداً، في اوائل سلم التطور الكائني، ومع ذلك نمتلأ غروراً وننتفخ سطوة وقسوة. نحن البشر، لربما المخلوقات الوحيدة التي تمارس العنف من أجل العنف، تقتل ليس دفاعاً عن بقائها ولا اسكاتاً لجوعها فقط، بل تقتل أحياناً من أجل القتل فقط، تلذذاً سيكوباتياً، سادية تقطن في أعماق المخ الانساني المعقد الذي ما فك الانسان ولا جزءاً يسيراً من اسراره، حتى أنه لينطلق أحياناً الى أعماق مظلمة خارج أي نطاق تحكم أو سيطرة.
نحن البشر، تاريخنا الذي يبدو معقداً هو غاية في السطحية والسخافة، تاريخ حديث، لربما لم يزد على المئتي ألف سنة امتداداً، يمتلئ في معظمه بالكوارث، موجهة الينا من الطبيعة أو من أنفسنا الى أنفسنا. نظرة الى التاريخ تبين نوع الكائن الحي الذي هو الانسان. للانسان تاريخ «مائي» طويل، حياته الأولى كانت على السواحل معجونة بالمسطحات المائية ومعتمدة بشدة عليها، الا أن هذا الانسان سرعان ما نسي الساحل ومياهه، وسجل تاريخه داخل اليابسة فقط، ورسم جنته أرضاَ غناء، ثم اكتشف خيرات الأرض، فنسي تلك التي في المياه، وبدأ الصراع المرير على التراب، «هذه أرضي، بل هي أرضي»، وتقاتل البشر منذ أن تركوا الماء، فأغرقوا الأرض بالدماء.
انظروا الى التاريخ، من هم المخلدون فيه؟ على أغلبهم هم «المقاتلين الشجعان»، من يقتل أكثر يحفر مكانه في التاريخ أعمق. يقول حسن ابراهيم أحمد في كتابه «العنف من الطبيعة الى الثقافة» ان «مكر التاريخ» يبرز في الكيفية التي يصنع بها العنف الأبطال والقادة، «فبدل أن تحوطهم اللعنات جميعاً لأنهم قتلوا بني البشر، وقضوا على مظاهر الانسانية الجميلة، تصب اللعنات على المهزوم منهم، وتلحق بالمنتصر كل مظاهر التبجيل والاحترام حتى لو كان أكثر فتكاً بالبشر» (19). لربما يحاول الغرب في الوقت الحاضر الابتعاد نوعاً ما عن مثل هذا التبجيل للقتلة القدماء، يتفهم الغرب أن الطبيعة الانسانية الغابرة التي كانت تبجل العنف لم يعد لها مكان في هذا الزمن، وأننا في عصر يبجل أبطال السلام لا أبطال الدماء، لذا يسعون لبناء تاريخهم الحديث بهذا المنطق.
وفي حين أنهم لا ينفون تاريخهم الدموي، الا أنهم يستعرضونه بطريقة تلقي العبر وتعلم الدروس. هذا التوجه هو غربي داخلي أكثر منه خارجي، أي أن الغرب لربما يسعى لترسيخ مبادئ السلام والأمن ونبذ العنف داخلياً، أما خارجياً، فيما يبتعد عن مدنهم وشوارعهم، تتغلب الوحشية على هذا المنطق الراق الحديث، فيندفع الغرب خلف مصلحته وان كانت في الطريق المليئ بالدماء، ولا أشهد على ذلك من دماء غزة ودماء دمشق ودماء العراق.
يقول أحمد «عندما يلهج الشعراء والفنانون بذكر قائد أو بطل ما، غالباً ما ينساق الناس وراء مثل هذا الذكر الطيب دون أن يتوقفوا عند تحليل الأسس التي عليها بنيت هذه الشهرة والسمعة العطرة، ويصبح من يشير الى سلبية ما في الشخصية موضع التبجيل انساناً حاقداً أو غير منصف، هكذا يقاد الرأي العام الى ما يعتبر في غير مصلحة الناس…وغالباً فان تغيير ما أٌقره التاريخ وكرسته الأيام واستقر في عقول الناس يكون أمراً مستحيلاً» (19). لربما ينطبق هذا الحديث علينا في العالم العربي والاسلامي أكثر من غيرنا، ونتجاوزه الى تهديد وايذاء من يتجرأ بنقد شخصية دينية بجلها التاريخ نقلاً على ألسنة الناس، بينما تندثر الدماء تحت ارديته وتقطر من سلاحه بدلائل لا غبار عليها من عمق التاريخ الذي لا يريد أن يراه أو يقرأه أحد. نحن نجتذب العنف والقتل اجتذاباً، نحن نبجل أصحابهما ونخلدهم في أورقنا الصفراء، «ضرب ضربة بيمينه فأسقط عشرة، وأخرى بيساره فأسقط عشرة»، وهكذا نذكر نحن القتلة بالتعظيم والتفخيم والكثير من المبالغة، وكأننا عندما نزيد من عدد ضحايا هذا الانسان نزيده قوه وعظمة لا وحشية وبشاعة.
أين الخلل؟ في تاريخنا أم في جغرافيتنا ام في طبيعتنا؟ لم لا نستطيع كعرب ومسلمين، أن نأخذ هذه الخطوة الصغيرة التي أخذها الغرب، نمنع العنف عن أنفسنا داخلياً على الأقل، لا نترجاه لبني أصولنا وعرقنا؟ العالم كله يخرج في مظاهرات احتجاجاً على العنف في عزة، وعالمنا العربي صامتاً صمت القبور، فالى متى يتشفى ساكن أوسط الشرق المنكوب هذا في جاره، يستبيح الحياة ويشمت في دماء الأطفال ويحول العنف المهول الى صراع فكري عقيم؟ لكل منطقة منكوبة في هذا الشرق الأوسط متشفين وشامتين، فأي نوع من المخلوقات نحن؟ نصف كروموسوم يفصل الانسان عن الشمبانزي، وحتى هذا النصف، لا نحسن نحن اظهاره، مع اعتذاري.