«لعبة العروش»
في ظل التوتر الشديد في منطقة الخليج الذي هو نتاج طبيعي لظروف قائمة سابقا، أهمها تراكم الثروات وغياب التخطيط الواعد، وتجذر الخلافات الطائفية التي تمثل الطرف المعادي سياسيا منها إيران ومن ثم يمن الحوثيين، نعيش نحن أهل الخليج حالة غير مسبوقة من التزعزع والخوف والانشقاق الصفّي. إلا أن سرعة تدهور الظروف تستدعي الأسئلة البديهية، هل كان هناك فعلا صف خليجي قوي متماسك شقته الظروف والخلافات الحالية؟ كيف تدهور الوضع ليس فقط بين الأنظمة، بل كذلك بين الشعوب بحد ذاتها بهذه السرعة والضراوة بعد سنوات من التغني بالخليج الواحد وروابط الدماء والأصول والتقاليد؟
لا يختلف الوضع كثيرا في سرعة ودرجة تدهوره عن الوضع بين مصر والجزائر مثلا الذي اتخذ منحا متدهورا سريعا بعد مباراة كرة قدم، أو ذاك الذي بين العراق والسعودية أو الآخر بين ليبيا وجيرانها وذلك بسبب من أشد أتفه الأسباب. منطقيا، تشير هذه الظاهرة الى أن الروابط التي نتغنى بها: عربيا، خليجيا، إسلاميا، عرقيا، لغويا، كلها واهية هلامية موازاة بالخلافات الطائفية التي ترسم العلاقات كلها ، التقويمات النفطية التي تحدد موازين القوى، والمقدرات الثرواتية التي ترسم هرم العالم العربي المنكوب. إخوة وأحبة من الخليج إلى المحيط، عروبة ولغة وكتابا مقدسا جعلونا جميعا خير أمة، لكن ما أن يسخن طرف فتيل أي خلاف، حتى «تولع» الدنيا كلها، تنقلب الـ «خير أمة» على الأمة بأكملها، تذوب العروبة وتضمحل اللغة ويُنسى الكتاب المقدس، ويبدأ الرجم والتقطيع من خلاف.
لا شك أن التدخلات الخارجية والثروات الداخلية والعقول المحلية وتدهور التعليم واستمرار الأنظمة الشمولية واستقرار إسرائيل في قلب العالم العربي كلها ظروف وأسباب لانقلاباتنا المتتالية على بعضنا بعضا، إلا أنه لا يبدو أن هناك سببا أقوى من الخلافات الطائفية والدينية وما يتبعها من تراشقات سياسية هي مسؤولة عن أغلب التسلسل الحدثي في المنطقة. إبحث عن الأزمة، تجدها متجلية في انشقاق طائفي أو منتجة لخلاف ديني، كل ما يحدث في المنطقة يبدأ من هذه النقطة وينتهي عندها، وسواء صدق الخلاف الديني أو كان مجرد غطاء سياسي، يبقى هو علبة جيدة جاذبة لتسويق الخلافات وتعبئة الجماهير.
ليس هناك مفر من طاولة الحوار ولو كره الكارهون. أوروبا حاربت ألف سنة ثم جلست حول طاولة حوار، شيعة وسنّة لبنان تطاحنوا خمس عشرة سنة ثم جلسوا حول طاولة حوار، الولايات الأمريكية الشمالية والجنوبية تصارعت أربع سنوات ثم جلست حول طاولة حوار، الهند وباكستان، طاولة حوار، اليابان وأمريكا، طاولة حوار، الصين وجاراتها، طاولات حوار، لذلك، طال الزمان أم قصر، اشتدت الأزمة أم خفت، صرفت الملايين في صراع لا طائل منه أم حفظت، مات المستضعفون في صراع العروش القائم أم نجوا، ستكون هناك ولو بعد زمن طاولة حوار، وستجلس حولها الأطراف بعد أن يكون الصراع قد أهلكهم واستنفد ثرواتهم وقضى على أخضرهم ويابسهم. يا ليتنا نستطيع أن نرى هذا المستقبل القريب حتى نتفاداه عوضا عن تراكضنا السريع المضحك نحوه. ألا تتعلم البشرية من تاريخها؟