فيلم عربي
يسوق الكثير من العرب المسلمين أمثلة على حالات فشل اجتماعي أو مواقف مناهضة للانسانية أو سياسة خارجية جشعة أو غيرها من التراجعات أو الأزمات، أو حتى الجرائم المرتكبة في الدول المتتبعة للمنهجية العلمانية على أنها أمثلة على فشل تلك العلمانية بل فسادها. تتجلى ها هنا سطحية التقييم المستخدم وسذاجته. فهذا التقييم يعتمد في سطحيته على فرضية وجود نظام أوحد يمكنه أن يحل كل مشاكل الدولة، وهو يعتمد في سذاجته على فكرة أن العلمانية ما هي إلا نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يسوقه مريدو الدولة المدنية الحديثة، من أمثالي، على أنه ذلك النظام الأوحد المتكامل، الذي يعتقدون هم بوجوده، لحل كل المشاكل والمعضلات الداخلية والخارجية، الإقليمية والعالمية.
ما ظننته لا يحتاج للكثير من التأكيد والإيضاح هو «حقيقة»، وأضعها بين علامتي اقتباس لأن الكلمة بحد ذاتها هلامية، أن لا وجود لنظام أوحد متكامل يمكنه أن ينظم ويحل مشاكل الدولة. فالدولة الحديثة تحتاج لمجموعة متكاملة من الأنظمة السياسية، والثقافات الاجتماعية التي تتكون عبر الزمن، والوفرة متبوعة بالحنكة الاقتصادية وغيرها من الأنظمة، لتبدأ رحلة تنظيمية حقيقية للداخل الوطني الذي يمكن له أن يؤسس لدولة قوية الأركان تستطيع التعامل مع مشاكلها بعقلانية ودرجة مقبولة من الإنسانية وحسن التنظيم. بالتأكيد لا وجود لدولة تخلو من المشاكل، ولا أعتقد أن الإنسانية ستصل في يوم ما لمرحلة المدينة الفاضلة ولا للإنسان الكامل الذي يمكّنها من خلق مجتمعات تخلو من كل العقبات والمعضلات، ولكنني أعتقد أننا نستطيع الاقتراب من هذه المرحلة، وان لم نبلغ تمامها، بالمحاولات المستمرة في تقريب الأنظمة العقلانية الإنسانية وفي محاولة إعادة تركيبها لتعمل جيداً مع بعضها البعض في المنظومة الدولية الواحدة.
العلمانية إذن هي أحد العوامل، رافد ينظم علاقة الدولة بالدين، أو بالأحرى يحيد الدولة تجاه الدين، بحيث لا تتعامل هذه المنظومة السياسية بتفضيل لمواطن على آخر بسبب انتمائه الديني. العلمانية تدفع لتفادي الحروب الدينية التي عانت مرارتها الإنسانية على مدى قرون، وذلك من خلال إيجاد منظومة قانونية واحدة يمكن لكل أطياف المجتمع المنتمين لأديانه المختلة الالتفاف حولها والانصياع لها من دون أن يؤثر ذلك على حرية معتقداتهم وممارستهم لهذه المعتقدات. العلمانية ليست نظاما اقتصاديا عبقريا، هي لا تضمن الموارد الطبيعية والوفرة المالية. والعلمانية، بلا ليبرالية، يمكنها أن تتحول إلى ديكتاتورية، لذا هي ليست نظام تحريري للعقل والإرادة. العلمانية ليست فكرا إنسانيا، بالمعنى الخالص، هي لا تجعلنا أكثر تراحماً أو سمواً في التعامل. العلمانية ليست نظاما تعليميا يُصلح المناهج، ولا نظاما علميا يطور التكنولوجيا، ولا نظاما أخلاقيا بحتا يجعل من البشر أكثر مبدئية. العلمانية ليست سحراً، هي فكر فلسفي سياسي يحيد الدولة تجاه أديان مواطنيها ليضمن مساواتهم أمام عين قوانينها، وبالتالي يضمن عدم قيام ثورات داخلية أو حروب أهلية بسبب من التمييز الديني. العلمانية في معناها البحت هي المادية أو التقييم الدنيوي للمشكلة وحلها من دون اللجوء للغيبيات التي يمكن للاختلاف بشأنها أن يقود لحروب ودمار.
إذن العلمانية هي خطوة تجاه الحل، خطوة كبيرة نعم، ولكنها ليست الحل كله، وهي عامل تنظيمي في جانب من جوانب الدولة، لكنها تحتاج إلى ليبرالية لتحررها وتحتاج لموارد لتسندها وتحتاج لعقول لتستثمر هذه الموارد وتحتاج لثقافة اجتماعية يطورها أصحابها عبر الزمن لتؤسس لمبادئ الانسانية والخير والعدالة وتحتاج لحنكة سياسية تربط دولتها بجيرانها وهكذا. ولذا، فان «الطيبين» الذين يضعون كلمة علمانية قبل اسم الدولة التي يريدون نقدها ليثبتوا فقط فشل النظام العلماني، هم في الحقيقة لا يثبتون أكثر من النظرة العربية المتأسلمة الضيقة الساذجة، أحادية الاتجاه، ولا يؤكدون سوى مبدئنا العربي الذي لا يعرف سوى أن يحب حتى العبادة أو يكره حد الإبادة. هم نتاج فكر يدفع بانتظار «مخلص» ما، صاحب نظام كامل متكامل، يأتي فينقذنا جميعاً بفكرة واحدة بسيطة وجامعة ليحقق النهايات الساذجة السعيدة، كما في الأفلام العربية. هم يفضلون الانتظار على العمل، النقد على التفكير، يريدون لوحة متكاملة ينظرون لها، ولا يريدون أن يصنعوها بأيديهم. هم لا يدركون أن النظام في الدولة هو أقرب للأحجية، تختار قطعها الواحدة تلو الأخرى، تقصقصها وتلونها ثم تركبها، ولربما عندها تكتمل الصورة، ولربما عندها يكون هناك شيء من العدل والسلام.
آخر شي:
أخجلتنا الدول «الكافرة» بمواقفها، وأخجلتنا السيدة ميركل «ناقصة العقل والدين» بقراراتها. ونعم، نعرف دور كل هذه الدول في خلق وتعقيد الأزمة الإنسانية السورية، ولكنها على الأقل تتحمل شيئا من المسؤولية، على الأقل تتناقش وتتحرك. أما نحن، فكما نحن.
وستبقى الكارثة التهجــــيرية السورية الأسوأ في التاريخ الإنساني، والأمرّ والأمض والأثقل على ضمير الإنسانية، وعلى مستقبل حياتها على الكرة الأرضية بأكملها.