«فشة خلق»
يغير الفنانون والأدباء والفلاسفة مجرى التاريخ أكثر مما يفعل المحاربون والساسة والاقتصاديون بل حتى العلماء. الفنانون والأدباء والفلاسفة يخترعون الفكرة الأولى والتي منها ينطلق الآخرون، وهم أصحاب البصمات الخالدة في الحياة، هم من يشكلون العقل البشري الذي يقود الكرة الأرضية اليوم. ولطالما عمد الأذكياء من الساسة والمحاربين الذي يرغبون في تخليد ذكرى أنفسهم إلى ربط أنفسهم بأعمال فنية بصورة أو بأخرى، فقصص السيوف تختفي مع الزمن، وقصص الجمال هي التي تبقى.
تحضرني من القصص الحديثة قصة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتيران الذي يذكره الناس اليوم ليس بسياساته ولكن بارتباط اسمه بالهرم الزجاجي الرائع الذي أمر ببنائه أمام متحف اللوفر، ومن القصص القديمة الحديثة قصة الفرعون توت عنخ آمون الذي لم يكن فرعوناً مميزاً، إنما شهرته الواسعة تأتت من مقبرته التي تم اكتشافها بكنوزها وفنونها الدفينة كاملة ما فتح لنا نافذة عظيمة على الحضارة الفرعونية القديمة.
لذلك، في يوم ما عندما تختفي «داعش» بكل شرورها ودمويتها، عندما يأكل التراب ودوده أجساد الحكام والساسة الذين يساندونها خفية وعلناً، وعندما يبيد أصحاب البترودولار الذين مولوها، وعندما تتحلل كل الأوراق التي كتبناها نقداً وتمحيصاً عن إسلام «داعش» أو كفره سيتذكر التاريخ ناصر القصبي وزملائه في «سيلفي» راوياً لنا كيف أن حلقتين بساعتيهما أثارتا موجة عارمة في محيط الشرق الأوسط الهائج، وكيف أن هذا العمل الفني البسيط أنار عقولاً وأثار قلوباً وبدأ حواراً وحقق ما لم نحققه كلنا ممن نجد ونجتهد في دبغ حروفنا على الورق نحاول إيصال ولو لمحة من لمحات الفكرة التي دخلت كل بيت وكل عقل وكل قلب من خلال ساعتي القصبي.
المثير فعلاً هو ردة الفعل الاسلامية الغاضبة على الحلقتين. ألا يردد المسلمون أن «داعش» ليس من الإسلام في شيء؟ ألا يتهمونها بالعمالة لأمريكا تارة ولإيران أخرى؟ فلم هذه الثورة تجاه هذا العمل الفني؟ هل أتى على جرح أم نكأ قصة لا يريد أحد أن يرويها؟ عموماً، هذه الغضبة بحد ذاتها ردة فعل ممتازة للعمل الفني تكفي وحدها عما عداها، وما عداها كثير مما حققه العمل، لكشف المستتر. تشير هذه الغضبة إلى حالة فكرية ومشاعرية متناقضة في الشارع العربي الإسلامي، فمن جهة هناك خوف عارم ونفور شديد من الفكر والفعل الداعشيين، ومن جهة أخرى هناك تقديس لهم بسبب حملهم لواء «الدولة الإسلامية» التي ستعيد أمجاداً غابرة وتطبق أحكاماً يعتقدها الكثيرون من صلب العقيدة، على الرغم من إقرارهم الداخلي بتنافرها والمنطق والزمن الحديث.
بوضوح نحن نعيش حالة تمزق عميقة دائمة تمعن نصلها في النفسية المسلمة، هناك خوف من مخالفة أو حتى مساءلة الشريعة التي لا يستطيع المسلمون تفريقها عن الحدث التاريخي، ممــــا يجعـــل وقائع التاريخ والعادات والتقاليد شريعة، وفي ذات الوقت هناك نفور من تطبيق أحكامها المحملة بالإرث التاريخي ورفض تام للكثير الوارد في نصوصها مما شكله الزمان والمكان الماضيان واللذان لم يعودا يمتان للزمان والمكان الحاضرين بصلة.
حلقتا «سيلفي» مثلاً وفي حين أنهما استعرضتا الكثير من دموية ووحشية «داعش» التي لا تتسق وأخلاق الإسلام أو أي دين آخر، إلا أنهما كذلك استحضرتا فكراً كثيراً هو من صلب العقيدة، كما يتفق عليها المعظم، وهو فكر يستحق المراجعة ويتطلب التمحيص والتنقيح. فالسبي والعبودية تشريعان يستوجبان الإلغاء التام، الجهاد فرض يستوجب التوضيح، وضع المرأة فلسفة تستوجب التحديث والأنسنة، التصاق السياسة بالدين حالة ثيوقراطية تستجدي الدراسة والتفكير.
إذن، فالعمل الفني هذا لم يظهر بشاعة الفكر والفعل الداعشيين فقط، ولم يأت بحقيقة ما يفعلونه إلى داخل بيوتنا ليحول قصص الرعب البعيدة إلى واقع قريب رهيب نعايشه ولو لدقائق قليلة فقط، إنما هو طَرَح، بين سطوره، أسئلة مستحقة تتعدى «داعش» الظاهرة الزائلة (على ما نتمنى) وصولاً إلى الفكر الداعشي الذي هو حقيقة واقعة نعايشها كل يوم في الخطاب الديني، في المناهج المدرسية، في القوانين الثيوقراطية، بل في تعاملنا اليومي مع بعضنا بعضا.
«داعش» ليسوا هم هؤلاء المسلحين المحدودين البعيدين، تصلـــنا قصصهم وكأنها أساطير خيالية بعيدة، «داعش» هو هؤلاء الذين يفجرون مساجد السعودية، يفخخون ســـيارات العـــراق، يقتلون الأبرياء في ســـوريا، يقلقلـــون الأوضاع في لبـــنان، يدرسون الكراهــية لأبنائنا في المدارس، يبثون الأحقـــاد الدفينة من على المنابر، «داعـــش» هو كتابة طائفــية على حائط عام في الكويت، هو خصام الأهل والأحبة في البحرين، هو تفتيش ديني في السعودية، داعش هو هنا، داعش هو شيعة وسنة، هو، بمساهمتنا أو بسكوتنا، نحن ولا أحد غيرنا.
القصبي وفريقه قالوا لنا كلمة، قدموا لنا صورة مخففة من بشاعة واقع بعيد قريب، فعوضاً عن أن نفش خلقنا المحروق في الرجل وعمله، وعوضاً عن استلال سيوف الألسنة دفاعاً ومناصرة، لنلتفت إلى الداخل بعين النقد مرة، نواجه الحقيقة مهما كانت موجعة ومرة، فننظر ما نحن فاعلون.