عضلات أخلاقية
من المثير للاهتمام النظر في العلاقة بين التدين والأخلاق والتي تبدو أحياناً وكأنها علاقة عكسية في مجراها. من الملاحظ أن المجتمعات التي تركز على تدينها وتمعن في إعلانه يتراجع فيها مستوى التمسك بالأخلاق أو الانضباط الضمائري النابع من برمجة داخلية للعقل والتفكير. لا أعتقد أن لهذه الظاهرة علاقة مباشرة بنوعية الدين أو تعاليمه، ولكن على ما يبدو تنمو هذه الظاهرة في تربة من الشعور بأمان أبدي وأفضلية بشرية تجعل من التدين وسيلة تبرير للكثير من الأفعال اللاأخلاقية. فالإنسان المتدين، أياً كان دينه، ينغمس في شعور بوصوله للحق المطلق وباعتلائه منصة الأفضلية بين أنواع البشر، هذا بالاضافة إلى ضمانه الجنة الأبدية بعد الموت، أياً كانت أخطاؤه طالما هو استمسك «بدين الحق» كما يعتقده ويراه، كل ذلك يزوده بشعور بأمان يسمح له بإطلاق وحش رغباته. تلاحظ هذه الظاهرة بقوة في مجتمعات الأديان الحديثة بشكل أكبر، فأوروبا المسيحية، إبان القرون المظلمة والوسطى، انغمست في حياة لا أخلاقية وانتهاكات بشرية وظلم وقتل واستبداد ارتكازاً على حماية الكنيسة وغفرانها للذنوب، وأحياناً كثيرة غالبة انطلاقاً من تعاليمها. وكذا فعلت اليهودية في مجتمعاتها التي أعلت الفرد اليهودي وأعلنته «مختاراً» بين البشرية، فمهما كثرت أخطائه وعلا استبداده، ستأتيه المغفرة وسينال رحمة وثواباً أبدياً.
لم يختلف تأثير الأسلمة كثيراً على مجتمعاتنا التي يعيش أفرادها تحت مفهوم «خير أمة» والتي مهما نال أفرادها من عقوبات فإن مصيرهم الجنة الأبدية طالماً هم على دين الإسلام. ترتخي العضلات الأخلاقية للأفراد بإهمالهم تحريكها وترييضها اعتماداً على تدين يعفيهم من التفكير والحكم على الأمور ويضعهم في دائرة أمان أبدية تضمن توفيق الخالق لهم دنيوياً وإثابته أخروياً طالما هم على هذا الدين، وكأن العضوية في حد ذاتها تصرف أخلاقي يكفي للحماية والإثابة.
هذا الشعور بالحماية والاستعلاء يصنع حاجزاً بين الناس والتفكير والتدبر والشعور بالمسؤولية تجـــاه أفعالهم، دافعاً بهم للإساءة ثم تقصي التــوبـــة المضـــمونة أو أحياناً لإيجاد تبريرات ومخـــــارج لهذه التصرفات من خلال فتاوى مفصلة على مقـــاس الرغبة تضع ضمير الإنســان في الثلاجة وتمنحه هذا الشعور البارد بالأمن والراحة إبان ارتكاب الخطأ الأخلاقي الذي لا يحتمل تبريراً أو منطقاً.
حضرتني هذه الأفكار في أكثر من موقف مؤخراً، آخرها كان وأنا أناقش إحدى الصديقات حول الانتخابات القادمة، حيث أعلنت الصديقة يأسها من أي اصلاح حقيقي في العالم العربي برمته، وبالتالي توجهها لتأييد وترشيح قريب لها هي غير مقتنعة بصلاحيته ولكنها مؤمنة بخدماته وفعاليته في تيسير أمورها الشخصية. سألتها: بعيداً عن أي كلام فلسفي حول المبادئ والأخلاق، ألا تخافين؟ قالت متفاجئة: مم؟ قلت من الله، ألا تؤمنين به وبجنته وناره، أليس هذا التصويت مخالفاً للأخلاق ويستوجب غضبه؟ وكأن الفكرة أتت من مكان بعيد غريب لم تجبه هي من قبل، قالت: الله أعلم بظروفنا وبمعاناتنا ويغفر لنا. حوار مشابه تم مع طالبة متدينة، تحرص على حجابها وفروضها، تناقش كثيراً وبإخلاص وقدرة رائعين في الفصل دفاعاً عن الدين بكل جوانبه، ولكن عندما تغيبت عن الدرس، أخبرتني أن والدها يستطيع استخراج عذر طبي لها من مستوصف المنطقة، سألتها: أليس هذا حرام يتناقض تدينك؟ نظرت في مبحلقة وكأن الفكرة لم تحضرها من قبل وساد صمت لم يكن من عادتها.
فاصل غريب يرتفع عالياً بين ادعاء التدين وبين ممارسات الناس لحياتهم اليومية، ولربما هو هذا الإدعاء الذي يشكل هذه الحياة اليومية. فجأة تنفصل حياتهم عن كل المثاليات التي يبشرون بها، الصدق، الأمانة، التساوي بين البشر، وغيرها، حيث تجدها جميعاً تنتهك وبشكل يومي وطبيعي ورقراق وكأن هذا النفاق الحياتي جزء طبيعي ومتوقع لا يتجزأ من الحياة اليومية.
لست أرمي هنا للمثاليات وللحديث عن المبادئ، ولكنني في الواقع أسائل نقطة منطقية تماماً وأنانية تماماً، فالإيمان بوجود إلهي وثواب وعقاب تحت مظلة أي دين كان، يستوجب خوفاً من الخطأ والإساءة، على الأقل تجنباً لعقوبة دنيوية أو لحرق أخروي، كما هو متوقع في الأديان الحديثة، إلا أننا نرى أن التدين يدفع بأصحابه، على عكس المنطق، إلى استمراء الخطأ والاستهانة بالإساءة بل أحياناً تبريرها، من خلال شعور بأمان مطلق وأفضلية خارقة بالإضافة إلى التوافر المستمر للتبريرات والفتاوى والمخارج الدينية التي تمكن الإنسان من أغراضه.
إنها التركيبة البيولوجية والنفسية العجيبة للإنسان التي تمكنه من الالتفاف حول كل منطق واضح لتحقيق أغراضه واشباع أنانيته، وتلك تركيبة يتطلب إصلاحها ثورة فكرية أقرب للثورة الغربية في تقييمها للدين الذي أصبح في غير مأمن من منافسة المنطق والأخلاق الوضعية، لم تعد للدين السلطة المطلقة التي يمكنه من خلالها دحض المنطق ومعاندة المبدأ والتفكير السليم، أصبح لزاماً على الدين تبرير تعاليمه وتفسير مواقفه والرضوخ في أحايين كثيرة للمنطق وللعلم وللضمير الانساني. طريق طويل وشاق شقته أوروبا في ألف سنة، أما نحن، فلربما علينا أن نحسبها بالسنة الضوئية.