بلا زعرنة
كانت لي قبل فترة مناظرة حول العلمانية أصر فيها مناظري على أن لبنان العلمانية هي مثال جيد لسقوط هذا النظام (أي العلماني) ولفشله المدوي في إزاحة الخلافات الطائفية. تذكرت الحوار وأنا أتابع أخبار الإنتخابات اللبنانية و«نظام المحاصصة الطائفية» كما يشير اليه الكاتب الصحافي أمين قمورية. كيف يمكن لدولة أن تكون علمانية وإنتخاباتها مؤسسة على تقسيم طائفي بحت ومباشر للمقاعد النيابية؟ بل كيف تكون الدولة قائمة الأركان ومكتملة السيادة وبعد كل إنتخابات أو أحداث سياسية يشتبك الناس مع بعضهم البعض في شوارعها ويدوي الرصاص في أرجائها؟ ما الذي يمكن أن ينقذ لبنان في الواقع الآن سوى علمانية حقيقية تخمد نار الفتنة الدينية التي ترتفع ألسنتها مع كل حدث سياسي؟
ولبنان هو حب العرب الأول والأخير وهو قبلة المختنقين في هذا الشرق الأوسط المسكين، هو تاريخ وعراقة وشعب جميل داخلياً وخارجياً وطبيعة خلابة، هو الحرية والجمال والعلم والثقافة، فمتى وكيف إختل مساره الذي كان يتجه بثبات وتؤدة في إتجاه الدولة المدنية المكتملة؟ متى وكيف إهتزت الدولة وتضعضعت أركانها؟ هو حديث نكرره جميعا حين نود أن نلقي بالأحمال من فوق الظهور، نلمع الشماعة ونبدأ بتعليق الإخفاقات عليها، في حالة لبنان ساعة تكون الشماعة التدخل الخارجي، وساعة هي إسرائيل، وساعات هي دول عربية نفطية جلبت صراعاتها لجبال لبنان، ساعة هي إيران، وساعة هي جيرة سوريا، وساعات هي أمريكا وروسيا تلتقيان في منتصف الطريق، كلها ساعات تمر في تبريرات، معظمها على قدر كبير من الصحة والتأثير بلا شك، ولكن لم يا ترى كلها تتعلق بآخرين غير شعب البلد المعني؟ لم هي دوماً مؤامرات خارجية وليس بلاء وعناداً داخليين؟
حين كانت أوروبا تموج بالمعارك الطاحنة منذ سقوط الدولة الرومانية وحتى أوائل القرن العشرين، كانت تساق الأسباب الخارجية ذاتها التي قسمت البلاد والعباد وخلقت إصطفافاتهم، بكل تأكيد القوى الخارجية لعبت دوراً، والأموال لعبت دوراً، إلا أن ما صبّ الزيت على النار كانت الصراعات الدينية التي غذت كل الخلافات الأخرى وكانت منفذاً لكل متآمر خارجي وكانت بوابة لكل المعارك التي لم يرغب أصحابها في خوضها على أراضيهم. كانت أوروبا أرضاً خصبة للحرب لأن في قلوب أهلها ماء كاوية لا تنضب، قناعات بحق مطلق ودور مقدس لا يمكن التخلي عنهما، وما يمكن أن يغذي حرباً ويشعل نفوساً ويدفع بشراً للتخلي عن الحياة ودون تردد أقوى من القناعة بحق مطلق يستوجب التضحية الكاملة والدفاع المستميت؟ بكل تأكيد للحربين الأولى والثانية كما للعديد من الحروب الأخرى على مر تاريخنا البشري أسباب غير دينية، إلا أن هذه سرعان ما تنفذ وتنطفئ وإن خلفت دماراً مروعاً، أما الحروب العرقية والدينية، فتلك تتوارث أسبابها كما كراهيتها أجيال بعد أجيال كلها تحرص على إبقاء نار الحرب المقدسة متقدة حتى يموت آخر عدو، ولأنه ليس لعدو آخر، فإن هذه الحروب كذلك ليس لها آخر، إلا حين يدرك المعنيون أنها دائرة هم يدورون فيها، دائرة لا نهاية لها ولا رابح فيها. وهكذا، فإن أوروبا لم تجد منفذاً خارج هذه الدائرة إلا حين جلست على طاولة وستفاليا لتوقع أول إتفاق حقيقي لتثبيت مفهوم سيادة الدول. فقط حين فرقت أوروبا بين المجتمع المتدين والدول ككيانات سياسية لا دينية كان أن إنطفأت نيرانها وبدأت مرحلة إستقرارها.
من ذا الذي مسك السلاح في لبنان إبان الحرب الأهلية؟ من ذا الذي قسم لبنان، كراسي للسنّة، للشيعة، للأرثوذكس، للموارنة، للدروز وغيرهم من الطوائف والأديان؟ من ذا الذي يذهب ليصوّت على هذا الأساس؟ من ذا الذي ينزل للشارع في النهاية ليحتفل بإنتصار جماعته أو لينفس غضبه لخسارتها؟ أهم الصهاينة أم الإيرانيون أم الأمريكيون؟ أم هم لبنانيون، أبناء البلد وأهلها؟ لست هنا في عارض إنتقاد لبنان وأهله، فكلنا في الواقع في الهم والذنب عرب، أنا فقط أستدعيه كنموذج لحالة محاصصة واضحة، محاصصة مطبقة بدرجات مختلفة في كل الدول العربية وتقود بدرجات مختلفة لذات النتائج المشتعلة. لبنان يعاني بشكل أكبر وأوضح بالتأكيد، فلبنان «مدفوش» في بلعومه دول أخرى، دول لها سحنة لبنانية ولهجة لبنانية إلا أنه أسفل تنكرها المتواضع روح ومصالح ودولارات كلها تعمل على هدم لبنان. نعم الظروف الداخلية عسيرة والخارجية رهيبة، ولكن الذي فتح الباب وأدخل الأعداء هم اللبنانيون، أهل البلد وليس غيرهم.
مرة أخرى، لست أقول ذلك بداعي النقد المؤذي، لكنها حالة مواجهة للذات مع الحقيقة. نحن لا نختلف عنكم أيها اللبنانيون في بقية أرجاء العالم العربي، نحن كذلك فتحنا الباب، في أفضل الدول وأكثرها إستقراراً واربناه بعض الشيء، ولكننا فعلنا على كل الأحوال، ثم جلسنا جميعاً نندب حظوظنا ونلعن جيراننا الإيرانيين وأعداءنا الإسرائيليين وأعدقاءنا الأمريكيين، لنلعب دور الضحايا المساكين، دور ممل كئيب.
أعلم أن الموضوع أكثر تعقيداً وتشعباً، لكن إذا أردنا مبدئياً لأجوائنا أن تهدأ ولإنتخاباتنا أن تكون حقيقية و«لزعراننا» أن يختفوا، فعلينا أولاً وقبل كل شيء إزاحة الدين من طريق السياسة وإزاحة السياسة من على قلب الدين. إذا فصلنا ستصبح الرؤية أوضح والمشاكل أكثر تحديداً والحلول أكثر إمكانية. سيكون هناك الكثير الكثير لإنجازه، ولكن سنكون قطعنا خطوة جبارة، نطفئ بها ناراً متقدة منذ مئات السنوات ثم نتفرغ بعدها لدخانها ورمادها، ننظفهم على مهل فيما نحن ننتظر الأرض المحروقة حتى تشفى وتلتئم جراحها، لنبدأ بزراعتها من جديد. الموضوع بأيدينا نحن أولاً وأخيراً.