إصلاح ذات البين
يقول بعض الدراسات الفلسفية أن منظومة الزواج بشكلها الحالي ستختفي قريباً بسبب العديد من التغيرات الإجتماعية والإقتصادية وحتى البيولوجية التي ستطرأ على حياة الإنسان، حيث ستدفعه هذه التغيرات إلى البحث عن منظومة أقل تسلطاً وأبوية وأنانية للعيش فيها، منظومة ليست بالضرورة ثنائية، كما وأنها ليست بالضرورة مغلقة. وعلى قتامة الصورة التي تبدو في المخيلة عند محاولة تخيّل هذا المستقبل الذي ستختفي فيه فكرة العائلة النووية، بمجدافها النسائي وقبطانها الرجالي، فإن الموشرات التي يعتقد المفكرون أنها تشير لهذا الإختفاء لطيفة تفاؤلية وأحياناً كوميدية. أحد أسباب توقع المفكرين مثلاً أن فكرة «الحب الأبدي» الذي يكلله الزواج ستختفي هو إعتقادهم بالإمتداد القادم لعمر الإنسان والذي قد يرتفع إلى مئتي سنة. ويرى بعض العلماء والمفكرين إلى صعوبة إستمرار فكرة الزواج والتي تتطلب أن يعيش تحت منظومتها شخصان لما يزيد على مئة وخمسين سنة سوياً، حيث سينتيهان إلى الفتك ببعضهما البعض ما أن يتخطيا حاجز الثمانين أو التسعين عاماً، فالتجاور والتلاصق لهذه المدة الطويلة ستقلب هؤلاء الأحبة إلى أشد الأعداء.
إضافة إلى ذلك، ستفضي، حسب ما يقول هؤلاء المفكرون، العوامل الإقتصادية والتغيرات الإجتماعية والأيديولوجية وغياب الكثير من الفلسفات والمعتقدات مستقبلاً إلى إنتهاء منظومة الزواج كذلك. ويقول بعض العلماء أن هذه المنظومة ما بدأت من الأساس سوى كمنظومات حماية للطفل البشري والذي هو الكائن الوحيد غير القادر على الإستمرار في البقاء كوليد من دون رعاية من بالغين، وذلك على عكس وليدي الكائنات الحية الأخرى القادرة، في معظمها، على الإستمرار في الحياة من دون الإعتماد الكامل على البالغين من جنسها. مع مرور الزمن دفع هذا الإتكال للطفل البشري الوليد على أبويه إلى تكوين هذه المنظومة النووية والتي تعقدت قواعدها وشروط إستمرارها مع تطور المجتمع الإنساني، إلا أنها حافظت، رغم كل شيء، على الشكل الأبوي الشوفيني لها حيث استمر دور الرجل فيها ليكون القائد المسؤول عن الحماية وتوفير سبل المعيشة ودور المرأة فيها لتكون المسؤولة عن الرعاية الداخلية وعن الإطعام.
هل تستطيع هذه المنظومة، بل هل تستطيع أي منظومة، بنيت على أسس شوفينية عنصرية، أن تعدل من تركيبتها لتواكب التطورات العلمية والفكرية والمفاهيم الحقوقية الإنسانية؟ يرى العلماء أن مشكلة الأسرة لا تتوقف فقط عند أسسها العنصرية ولكنها تمتد كذلك إلى المشاعر التملكية التي تبنى المنظومة عليها، فالتركيبة الزوجية تستدعي درجة من الإنحسار في الحرية ودرجة من تسلط الطرفين على بعضهما البعض تتعارض والسعي الإنساني الحثيث نحو المزيد من الحريات، هذه الحريات التي لا يمكن لها أن تكتمل مطلقاً من خلال تركيبة العلاقة الثنائية على شكلها ومبادئها وقيمها الحالية والتي تتطلب أن يأخذ كل من الطرفين بعين الإعتبار رغبات الطرف الآخر ومحاذيره، بل وتفرض علاقة أحادية على كل من الطرفين يمتنع فيها كلاهما عن التواصل الحسي مع أي طرف خارج هذه المنظومة. ويرى بعض المفكرين أن المجتمعات البشرية لم تكن دائماً في الواقع أحادية العلاقات أنثروبولوجياً، وأن البشر ليسوا مشكلين جينياً ليبقوا في ثنائيات دائمة لا تتغير، وأن سبب ما نسمّيه الآن الخيانات المستمرة بين الثنائيات الإنسانية هو في الواقع تلك الرغبة الجينية للإنسان في التجاوب الحسي مع آخرين غير «وليفه». تلك النقطة تحديداً تعتبر الأكثر صعوبة وإيلاماً مشاعرياً وتشويشاً أخلاقياً وقيمياً، وإن كنت لا أدري إن كانت هذه الفكرة ستسعد الرجال كثيراً، لربما ستكون مصدر إغضاب لهم في الواقع إذا ما إكتشفوا أنها يفترض أن تنطبق على المرأة كما إنطباقها على الرجل تماماً. في كل الأحوال، وكما يقول العالم الكبير ريتشارد دوكينز، لربما نحن نتاج تطور دارويني، إلا أننا لسنا مضطرين لأن نعيش في مجتمع دارويني، لا بد لنا أن نقاوم تركيباتنا وتشكيلاتنا البدائية والتي تتعارض وقيمنا وأخلاقياتنا الإنسانية الحديثة وأن نسعى بإستمرار لتشكيل مجتمعات حديثة أكثر إنسانية ورحمة وأخلاقية من المجتمع الدارويني التطوري البيولوجي المخيف.
إن إعمال الخيال لتصور منظومات مستقبلية ليس فيها الدفئ العائلي الذي نعرف، ليست فيها فكرة الإخلاص الأبدي والتكريس الجسدي والروحاني للآخر الذي نقدس لهي مهمة شاقة تعذيبية، إلا أن التحرر الذي قد ينتج عن تطوير منظومة الزواج من شكلها الحالي الشوفيني إلى شكل آخر أكثر تحرراً ومساواة بين أطرافها وأكثر إستقلالية لهم، لربما يقلل من قتامة المنظر القادم بعض الشيء. يبقى السؤال الذي لربما أتركه للمقال القادم والذي يلح متحدياً: هل يمكننا أن نكون أكثر تحريراً لأنصافنا الأخرى في حياواتهم وفي قراراتهم؟ هل في الإمكان تصور تركيبة إجتماعية قادمة يكون فيها الطرفان متساويين متحررين غير مضحيين بأي حق أو حرية، مكتملين السعادة بلا أي تنازلات؟