أنا أفعى
إن من ينظر في تاريخنا البشري تذهله روعتنا وفي ذات الوقت سذاجتنا، نحن جنس رائع، رائع في تطورنا، وان كان بطيئاً، رائع في انجازاتنا، وإن أتت بصحبة الكثير من الهدم والتخريب. ولكننا في ذات الوقت غاية في السذاحة (وذلك تفادياً لاستخدام كلمة أقسى) فنحن نتوارث ذات المفاهيم والقصص والحكايات، نبعثرها بين حضاراتنا المختلفة، ثم نصدقها حد اليقين. نكرر تواريخنا بقصصها وايمانياتها وأخطائها وحتى بنهاياتها، وكأننا لا نتعلم من ماض قريب أو بعيد. نرفض نحن أن نصدق الدلائل التي تتضارب ومفاهيمنا المتوارثة، نزيح المنطق لمصلحة العادة ونحارب الحقيقة لمصلحة التقليد. تاريخنا قصة، وأكذب القصص هي قصص التاريخ، الا أن من يتوغل فيه، من يجمع قطعه ويعيد ترتيبها، سيتمكن من رؤية المشهد واضحاً وكاملاً على الرغم من كل كذب التاريخ وتحويره.
استحضرت هذه الفكرة وأنا أقرأ مسرحية من التراث الياباني القديم والذي يسمى No Drama، وهو نوع من المسرح الغنائي التراثي «الطقسي» والذي يقدم قصصاً وعظية بأسلوب تعبيري. عنوان مسرحيتي هو Dojoji وهي تحكي قصة فتاة تقع في حب كاهن معبد. القصة معقدة وغير منطقية كعادة كل القصص التراثية الإسطورية إلا أن المثير فيها أن الفتاة تتحول في لحظة غضبها إلى حية شبيهة بالتنين تنفث حقدها ناراً تحرق بها حبيبها الذي تعتقد بخيانته. لفتني رمز الحية الذي لا يكاد يخلو منه أي ثقافة أو حضارة أو فلسفة دينية والذي عادة ما يقدم مرتبطاً بالأنثى في دلالة على شرورها ودهائها بعد أن بدأ في فجر البشرية كدلالة على قوة الأنثى وحكمتها بل وإلوهيتها. أن تتبع تاريخ تشبيه المرأة بالحية بداية من التشبيه الإيجابي مقدس المعنى ووصولاً إلى التشبيه السلبي شوفيني التضمين يشير بوضوح إلى التحول الحاد للمجتمع البشري من مجتمع أمومي كانت فيه المرأة هي الرمز/الآلهه/القائدة الى مجتمع ذكوري أصبحت فيه المرأة هي الآخر/مصدر الآثام/الشر الذي لابد من التخلص منه.
فكما ظهرت الحية في التاريخ الياباني القديم بشكل تمييزي ضد المرأة، كان لها ظهور في التاريخ السومري، الذي هو لربما أقدم من الياباني، بذات القالب حينما هاجمت الحية البطل جلجامش سارقة منه نباتا يحتوي اكسير الشباب الذي يضمن له شبابه وقواه مدى حياته. تتابع ظهور الحية في العديد من الحضارات، ولكن المثير للإنتباه هو أنه في حال ارتبط رمز الحية بالأنثى، فإن هذا الإرتباط، الذي بدأ في أول البشرية ايجابياً ومصدقاً على قوة وإلوهية المرأة، انتهى لأن يكون دلالة على دهائها وشرها وسمومها النفاثة مع تحول البشرية الى النظام الأبوي. وهكذا وصل هذا الرمز للأديان، فتحولت عصا موسى الى أفاعي مخيفة في اليهودية، ودخلت أفعى الى الجنة لتخرج منها آدم وحواء في المسيحية، وهي مخلوق مكروه ودلالة آثام وشرور، حيث أنها كذلك سبب خروج الإنسان من الجنة في هيئة حواء (حية من حياة ومن الحياة حواء-من ظل الأفعى، ص 88) في الإسلام.
إلا أن الكاتب د يوسف زيدان يدعونا الى مراجعة تاريخ هذا الكائن الزاحف الخارق وارتباطه التاريخي بالمرأة في روايته القصيرة الرائعة «ظل الأفعى» فيقول «الحية عكس الميتة . . الحية ضد الفناء . . الحية مرادفة للخلود، والإنبعاث، وتجدد البقاء. . الحية، أنت وأنا لحظة مولدك، لحظة الميلاد التي تتحقق بها أنوثة الأنثى، على نحو لا مثيل له. والحية، هي روح الوحي الأنثوي الساري في النساء، خافتاً كالفحيح، منذ فجر الوجود الى يوم منتهاه» (88). ثم يقول زيدان «وللحية معان مستترة عن أعين الناس، وشت بها اللغةـ وتناساها الناس. الناس نسيان. فمن مستتر معانيها، ما يأتي في متون اللغة عند الإبانة عن لفظ إله. . ولا تندهشي من قول لغوي شهير، ابن منظور، إن الإلهة هي الحية العظيمة! وفي بيان مادة لوه يقول في كتابه المشهور «لسان العرب» ما نصه: اللاهة هي الحية، واللات صنم مشهور يكتب بالتاء (اللات) وبالهاء (اللاه) والأخير هو الأصح، وأصله لاهة وهي الحية!»(89). وحتى عند العرب كان للحية معان خطيرة كما يشير زيدان كلها ترمى الى عضو المرأة الخاصة بالتزويد بالحياة (88).
وكما تحولت المرأة من إلهة خارقة خلاقة في فجر الوجود الإنساني الى كائن مستعبد ومادة شهوانية ومخلوق سام خطير في غروبه، تحول معها معنى ودلالات الأفعى، من رمز للوجود والحياة والقوة الى آخر للدهاء والفناء والموت. هكذا قلبنا المعاني وحورنا الفهم التاريخي لصالح الذكورة الشوفينية، فنسينا تاريخنا الأنثوي المقدس، وإن حدث وذكرنا أحدهم به، تملصنا منه وكأنه جاهلية ورجس عظيم. إن تاريخنا البشري ينضح بسذاجتنا، يرسم خارطة واضحة لتبدل أدوارنا، يصور صورة يانعة الألوان لموروثاتنا الأسطورية التي أصبحت ايمانيات ومعتقدات ومفاهيم مقدسة لا تمس. نحن كائنات غريبة ساذجة، مهيبة رائعة، يجب أن نحتفي وننعي وجودنا الجليل المضحك في ذات الوقت.
ولكن اليوم، مع تطورنا الملحوظ، يستوجب علينا نحن النساء أن نستدعي ما فقدناه، لذا، إن التفت إليك «ذكر» في يوم فشبهك بأفعى، فاحملي التشبيه على هامتك، وقفي به شاهقة على قدميك، فأنت بهذا التشبيه آلهه، جميلة خارقة صارمة حازمة، لست عنيفة سوى مع من يهاجمك، ولست مخادعة إلا مع من يحاول الإلتفاف عليك. احملي تاريخك بفخر، و»ازحفي» على التشبيه إلى عليائك الذي كان.