تحميل إغلاق

التابوت الطائر

التابوت الطائر

تعلقت عيناي به، شاب يرتدي قميصا قطنيا رماديا واضعاً كف يمينه على “ظهر” رأسه وسانداً بكف شماله التابوت المتأرجح بعنف كأنه صندوق لعبة ترفيهية في مدينة ملاهي صاخبة. أعيد الفيديو وأكرره، شيء ما كريه في بشريّتنا يتجلى في هذا الفيديو، شيء ما متوحش، بدائي، يأخذ رحلتنا التطورية آلاف السنوات للخلف.

إنها الحقيقة الوحيدة التي تتفق عليها البشرية كلها، الموت الذي لا يمكن لأحد نفيه أو الخلاص منه أو تجاوز هيبته، فما بال مشهده تحول إلى هذا السيريالي الغريب؟

مشهد سيريالي غريب بحق، يتأرجح من خلاله التابوت الذي يحمل جثمان الشهيدة شيرين أبو عاقلة على الأيادي المتسابقة لحمله وإبقائه مرتفعاً. صراع غريب يجري في المشهد بين طرفين، أحدهما مكون من أفراد متشابهين، يرتدون ذات البزات السوداء التي تغطي أجسادهم من رأسها لأخمص قدميها، بزات توحدهم جسداً وفعلاً، كأنهم كلهم صورة واحدة كربونية متكررة، كأنهم رجال آليون، يتحركون بنفس الطريقة، يضربون بنفس اللامبالاة، يرفعون الهروات بنفس الميكانيكية، بلا تفاعل إنساني حقيقي، بلا روح خلف الآلة.

في الطرف الآخر ألوان كثيرة وحركة غريبة، شباب ورجال وقليل من النساء يتدافعون بإصرار يائس، كأن حيواتهم معلّقة بالصندوق، كأنهم يدركون أنهم سيفقدونه أو يفقدون أنفسهم في المشهد، لكنهم يصرون على تطاوله بأياديهم الممتدة بتوق جارف حارق. أي شيء وكل شيء إلا أن يقع الصندوق.

عيناي معلّقتان بالشاب، واع إلى أن رأسه قد يتلقى الضربة في أي لحظة، كف يده القوية الشابة تغلف خلفية رأسه، إلا أنه مصر على التمسك بعروة الصندوق بكفه الأخرى بكل قواه. تفلت العروة من يده في لحظة فتدفعه أجساد الآخرين للخلف، الصندوق يكاد يمس الأرض سقوطاً من طرفه الأضيق إلا أنه وبهفة هواء سحرية، يرتفع سريعاً إلى الأكتاف مجدداً، وكأن الموت بالنسبة لكل هؤلاء “الملوّنين” دون سقوط هذا الصندوق على الأرض.

أبحث عن الشاب ذي القميص الرمادي إلا أنه يغيب عن المشهد، يذوب في الجموع الجامحة، الحائرة، الثائرة، الفائرة التي جاءت تودع شيرين أبو عاقلة.

المشهد فعلاً سيريالي، كأنه لقطة من مسلسل “Black Mirror”، أو كأنه تصوير من فيلم لدستوبيا مستقبلية حيث البشر يتحولون لآلات ميكانيكية وحيث قلة قليلة تبقى على إنسانيتها: هائجة، جامحة وبشرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

أفكر في جسد شيرين المسجى داخل الصندوق، الصندوق المتأرجح على الأيادي الممتدة بشجن، الأيادي المصهورة على أجساد متدافعة، كأنها قوائم لعبة ملاهٍ مخيفة، كأنها موجة بحر هائجة، كأنها حقل من زهور النرجس البري الذي تغنى به ويليام ووردزوروث العظيم.

أفكر في رأس شيرين الذي كان مختبئاً في خوذتها التي كانت تعلو جسدها الذي كان مغطى بكلمة “Press”، هذه الكلمة التي لم تحدث فرقاً مع قاتلها. لم تحم شيرين صفتُها الصحفية، لم تحمها صفتها الإنسانية، كل الصفات تصبح مفرغة تحت شريعة الغاب التي تسيطر على أرض فلسطين.

شيرين بجسدها المسجى تحت الشجرة، وحيدة كأنها على جزيرة نائية معزولة عن العالم كله، وشيرين بجسدها المسجى في التابوت، وحيدة كأنها تتهادى فوق غيمة، تطير بتابوتها فوق سواعد لوحتها شمس الشمال وقلوب حرقها الظلم والقهر.

شيرين منذ 1917 وشيرين إلى أن يعتدل الميزان ويستتب العدل. كل شيء إلى العدم، وشيرين ستبقى طائرة في تابوتها، كأنه صندوق لعبة صاخبة يضحك الأطفال من جوفه، كأنه غيمة سابحة حبلى بأمطارها، وكأنها هي العدالة والإنسانية في تمامهما، حلم لا. . . وقد يتحقق.

اترك تعليقاً