يوم القيامة
كل شيء يحدث هذه الأيام غريب، كأن الكرة الأرضية دخلت بعداً آخر، كأن مجرتنا مرت من ثقب أسود فخرجت من عالمنا ذي القوانين المألوفة والأبعاد الثلاثة المطلوبة لكي تنشأ الحياة وتتواجد الأشياء، ودخلت مساحة غرائبية تماماً، انقلبت فيها الموازين، وتلخبطت فيها الأبعاد، وتبدلت فيها قوانين الحياة من أقصاها إلى أقصاها، حتى لكأننا نحيا عكس الأحداث ومساراتها ومنطقيتها وطبيعتها.
من كان ليصدق أن تقوم حرب إبادة جماعية بهذا العنف والبشاعة والإصرار أمام مرأى العالم أجمع ومسمعه، وقودها المدنيون، وأهدافها الرئيسية الأطفال، وذلك تسجيلاً وتوثيقاً بالصوت والصورة، يُستهدف إبانها تحديداً الصحافيين، الطواقم الطبية، عاملي الإغاثة وأعضاء المؤسسات الحقوقية، مخيمات اللجوء، المدارس، الجامعات، دور العبادة، والأطفال، تحديداً الأطفال، والعالم بكل أنظمته وحكوماته “الديموقراطية المتطورة” يبرر للقاتل و”يتفهم” حاجته للدفاع عن نفسه؟ من كان ليصدق أن تبارك حكومات “العالم الأول” كياناً محتلاً مغتصباً يتصرف كأنه عصابة شرسة، بل وتعترف هذه الحكومات به و”بحقوقه” وهو لا أرض له ولا حدود، هَجَّرته هذه الحكومات ذاتها من أرضه الأصلية ليجثم على صدر شعب لا علاقة له به ولا امتداد له معه؟ من كان ليصدق أن يذهب هذا الكيان إلى قصف خمس دول قائمة في آن ولا يزال هذا الكيان معنوناً على أنه هو الضحية؟
من كان ليصدق أن ينقلب الحال بالكثير من الدول العربية من الشجب والاستنكار، اللذين طالما استصغرناهما أمام حجم المأساة الفلسطينية، إلى التطبيع اليوم بكل أريحية، بل وإلى مد جسور السياحة وإنشاء دور عبادة دينية ترحب بالصهاينة وتستجذبهم؟ من كان ليصدق أن جاراً عربياً يصرخ أهله تنديداً بالكيان الغاصب ورفضاً لجرائمه، تمرر حكوماته باليمين سيارات إعانة غذائية للغزاويين وتسيّر بالشمال صفقات الأسلحة للقاتل المغتصب، وكلنا نعرف، والجار يعرف أننا نعرف، ونحن نعرف أنه يعرف أننا نعرف، والكل بالسكوت ملتحف؟ من كان ليصدق أن المعبر الأوحد خارج الجحيم الذي تمر به غزة الآن والذي هو معبر عربي صِرف، مغلق في وجه الغزاويين؟ من كان ليصدق أن تنسى الشعوب العربية حتى لوم جامعة الدول العربية أو مجرد مطالبتها برفض أو تنديد نظراً للغياب التام والفضائحي والمخزي لأي دور لها وشعب عربي يباد أمام أنظار مجتمعيها ولا “حياء” للمجتمعين؟ من كان ليصدق أن تُمنع المظاهرات المؤيدة لفلسطين والمطالِبة بوقف حرب الإبادة عليها في شوارع المدن العربية وبأحكام مغلظة من حكوماتها، لتخرج بأعداد مليونية في شوارع المدن الغربية وتحدياً لحكوماتها؟ من كان ليصدق أن تقف الشعوب الأوروبية مواقف انتصار وإنسانية تجاه الغزاويين أشرف ألف مرة من مواقف الشعوب العربية؟
من كان ليصدق أن يطالب محمد الشرع، المنشق عن القاعدة والمؤسس لجبهة النصرة، التي تحولت لاحقاً لجبهة تحرير الشام، بالدولة المدنية، في حين يقبِّل فلاديمير بوتين القرآن الكريم وهو في زيارة لمسجد النبي عيسى في العاصمة الشيشانية؟ من كان ليصدق أن تَهدم مصر مساحات شاسعة من آثارها، التي هي ثروتها الحقيقية، والتي يمتد عمرها لأكثر من ألف سنة لتبني جسوراً ومولات؟ من كان ليصدق أن ترقص جينيفير لوبيز بمايوه في موسم الرياض؟ من كان ليصدق أن يمشي الصهاينة في شوارع دبي؟ من كان ليصدق أن يَهجُر الكويتيون أهم وأكثر المباني حركة وحيوية في بلدهم، مبنى مجلس الأمة، وأن تفقد آلاف الكويتيات جنسياتهن على مدى أسابيع قليلة، فيفقد الدبلوماسيون والعسكريون أبناء هذه النساء وظائفهم، وتتعطل البنوك بسبب عدم قدرة هذه النساء على دفع قروضهن بعد وقف رواتبهن ومداخيلهن، وتتضعضع الأرواح وتهتز الأُسر في أعماق أعماقها وتتغير كل مخططات الحياة، من أبسطها المتمثلة في سفرة قادمة، إلى أخطرها المتمثلة في تزويج ابن أو ابنة أو الحصول على وظيفة، في يوم وليلة؟ من كان ليصدق أن تعيد أمريكا انتخاب رجل متورط في قضايا جنسية وفساد مالي وتهرّب من الضرائب؟ من كان ليصدق أن تتوارى الحكومات الأوروبية “المتحضرة” خلف مصالح رخيصة، لتقف دول مثل الصين وإيران واليمن وقفة حق متحضرة مع شعب يباد أمام مرأى العالم أجمع؟ من كان ليصدق أن أولى الدول التي تتحول عن موقفها لتساند القرار الأخير للمحكمة الجنائية الدولية الذي يدين إسرائيل ويصدر مذكرة للقبض على نتنياهو هي فرنسا، أشد الدول مناصرة لإسرائيل وأعنفها في التعامل مع مظاهراتها الشعبية المؤيدة لغزة؟ وعلى المستوى الشخصي، هل كنت لأصدق تحولي أنا للتأييد التام والمساندة غير المشروطة لحماس وللتخفف في الموقف تجاه حزب الله وإيران ولتأييد مؤسس جبهة النصرة وجبهة تحرير الشام؟ لحظة، نسيت شيئاً غرائبياً آخر على ذكر مؤسس جبهة النصرة وجبهة تحرير الشام، من كان ليصدق أن يوالي المنشق عن القاعدة، محمد الشرع، أمريكا ويصبح حليفاً لها وبتحالفه هذا يروض المثلث الروسي الإيراني الحزبي (من حزب الله) ويقطع عليهم الطريق ويعطل كل إمكانية إمدادهم للمقاومة الفلسطينية بالسلاح؟ ومن كان ليصدق أن يقف أصحاب المبادئ، التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وقفة الذهول والانشداه والتنافر والتضارب والفوضى هذه، مؤيدين تماماً للمقاومة الفلسطينية، محتفين تماماً بسقوط نظام الأسد، والحراكان يسيران في طريقين متنافرين؟
هناك شيء ما يحدث في الكون، لربما سُحبت مجرتنا إلى كون آخر من الأكوان المتعددة، لربما ابتلعنا ثقب أسود، وكل ما يجري الآن هو أضغاث أحلام، عقول مبددة مفتتة تمططت حد التمزق التام في الثقب الأسود، لربما وجدتنا كائنات فضائية فوضعتنا جميعاً تحت برنامج إلكتروني اختلت إحداثياته، لربما قامت القيامة وكلنا الآن موتى نتعذب في الجحيم، أو اصطدمت مجرتنا بأخرى وانتهى كل شيء فتحولنا نحن إلى غبار نجوم نتطاير معذبين بذكريات الأرض التي كانت ذات يوم في هذا الكون اللانهائي البارد (يعتمد ذلك على تدينك أو عدميتك)، لربما أشياء كثيرة، كلها محزنة مخيفة، الشيء المؤكد أننا دخلنا حيزاً غريباً مخيفاً، وأن لا أحد منا سيخرج منه سالماً، لربما لأننا لا نستحق، كلنا بربطة بشريتنا، الخروج سالمين.