يكفينا شهداء
تحدث الدكتور محمد بدارنة عضو هيئة التدريس في جامعة الكويت، في ورقة مهمة له حول مفهوم الشهادة بعلمانية معناها الحالي في الحوار العربي المعاصر، عن ثيولوجية المعنى الذي اتخذ مع الوقت منحى مدنيا قدم قراءة علمانية للشهادة مكتملة المعنى وذات قيم ومبادئ مبنية على المفاهيم المادية. ليس بالضرورة، يشير الدكتور، أن تصنع صفة الشهادة من المعني بها شخصا مقدسا، إنما في عالم اليوم مادي المنطلقات، يمكن أن يكون للشهادة نتائج أخرى لها علاقة بالوطنية أو باستيفاء الواجب في أي من مناحي الحياة العملية. بين الدكتور أن إضفاء صفة الشهادة على الشخص يعطي للحدث الذي فقد إبانه الشخص حياته بُعدا ملحميا، محولاً هذا الحدث إلى حالة أكبر من الحياة. عدد الدكتور تصنيفات الشهداء في المفهوم اللغوي الحالي وكيف أنها انطلقت لتشمل فئة واسعة من المتوفين من أجل أهداف وقيم قد تبتعد تماماً عن المفهوم الديني وأهدافه.
أحالتني الورقة إلى الاستخدام الحالي لكلمة شهيد بالإشارة إلى ضحايا العدوان الصهيوني على غزة وخان يونس ورفح والضفة وبقية المدن الفلسطينية، وهو الاستخدام الذي تعدى الحيز العربي الإسلامي الذي اعتاد استخدام هذا التوصيف بكل ثقله ومعانيه العميقة المعقدة إلى الحيز العالمي الذي انطلق في استخدام هذا المصطلح ليس فقط تعبيراً عن حالة المغدور وما يعنيه مقتله بالنسبة لمحيطه الأكبر ولربما بالنسبة للعالم أجمع، ولكنه مصطلح يعبر كذلك عن حالة نفور وتقزز من القاتل، هذا الخائن، كما هو متضمن من توصيف الطرف الآخر بالشهادة، للمبادئ والمثل الرفيعة وللقيم الإنسانية التي تحكم علاقاتنا كبشر جميعاً.
أصبح المحيط العالمي العام اليوم، في تعبيره عن غضبه تجاه إسرائيل الصهيونية بكل بشاعة سلوكياتها العسكرية الإجرامية، يتداول كلمة الشهادة وتوصيف الشهيد بشكل متسع عاطفي يصور ما تمر به غزة على أنه حدث ملحمي ضخم سيخلد فئة من البشر في «الجنة» الدينية والدنيوية، أي بالمعنى الديني الميتافيزيقي، وبالتقدير والتقييم والإطراء الدنيويين، كما سيخلد فئة أخرى في النار الدينية والدنيوية بذات المعنيين الديني والدنيوي. لقد انطوت كلمة الشهادة المستخدمة اتساعاً اليوم على معنى «دنيوي» عظيم وعميق يحمل في طياته القيم الوطنية، مؤكداً على التزام المعني بهذا التوصيف بجملة مبادئ وقيم وأخلاقيات دفع حياته من أجل المحافظة عليها.
لقد أصبح الكثير من الأفراد الغربيين يتداولون كلمة الشهادة عبر وسائل التواصل رغم عدم انتمائهم للأيديولوجية الدينية التي تشكل معناها اللادنيوي بكل عمقه وانغماسه في الرواية الدينية المعنية بالكلمة. فالغربي حين يصف الفلسطيني بالشهيد هو لا يرى جملة المعاني المحملة بها، لا يرى المكافأة والمقدار الأخرويين الموعودين لصاحبها في الأيديولوجية الإسلامية، هو فقط يعبر عن قيمة إنسانية مبدئية دنيوية خلدت صاحبها في عارض دفاعه عنها. هذا المعنى التجديدي هو غاية في الأهمية للقضية الفلسطينية، فهو معنى، حين إضفائه كما هو واقع حالياً، ينطوي على أحكام سياسية وتاريخية وحقوقية قاطعة بأحقية الشعب الفلسطيني للأرض التي يموت من أجلها وبغدر واعتداء الكيان الصهيوني الذي حولت جرائمه كل فرد من الشعب الفلسطيني يفقد حياته على أرضه إلى شهيد.
أشار الدكتور بدارنة كذلك إلى مفهوم «شهادة الإعلاميين» الذي يدخل في قائمة الشهادة المدنية، حيث أصبحت هناك إحالة مستمرة إلى توصيف الشهادة حال مقتل أي إعلامي يفقد حياته أثناء أداء الواجب. إن حالة التصيد المتعمد للإعلاميين ولعائلاتهم في غزة بسبب أدائهم لواجبهم الإعلامي قد خلقت منهم فئة لربما يجدر توصيفها بالمميزة والمختلفة في شهادتها، هم أشخاص غُدر بهم عمداً انتقاء على الرغم من أنهم يفترض أن يكونوا محميين بقوانين دولية تميزهم وتحميهم وتصد عنهم أثناء أداء واجباتهم الإعلامية. هذه الحالة الاستشهادية الرفيعة أظنها قد وصلت بمعناها المضاعف للشعوب الغربية، لتستخدم هي كذلك هذا التوصيف بشكل خاص تجاه الصحافيين والإعلاميين وصانعي المحتوى والذين يستهدفهم الغدر الصهيوني بشكل واضح وممنهج ووقح في مباشرته.
ولقد سأل الزميل في جامعة الكويت الدكتور أمين المهنا عن إضفاء معنى الشهادة على الانتحار ضارباً المثل بالإشارة العربية المستمرة للبوعزيزي، مشعل الثورة التونسية، على أنه شهيد الثورة رغم أن وفاته كانت انتحاراً. أحالني هذا السؤال للتفكير في قوة هذا الشعب الغزاوي الذي بقي صامداً مقاوماً حتى فكرة التخلي عن هذه الحياة القاهرة الوحشية، ليتبع هذه الفكرة لوم عام للمشهد العربي الذي وضع الشعب الغزاوي كله على منصة بطولة ملحمية غير آخذ بعين الاعتبار أن الغزاويين مجرد بشر، مثلهم مثلنا جميعاً، ليس هدفهم هو رسم تلك الصورة الأسطورية للمقاومة ومكافحة الموت بأشكاله المفروضة عليهم اليوم من تفجير وقنص وتجويع وتشريد، إنما هم يهدفون لحياة كريمة آمنة مستقلة على أرض هي لهم وفي وطن توارثوه عبر الأجيال والثقافات المختلفة.
وعليه، وفيما نحن نحتفي بتوصيف الشهادة الذي غمر الخطاب العالمي ووضع الحالة السياسية المتوحشة في نصابها وسمى الأشياء بمسمياتها، فأكد على استحقاق الفلسطيني وتعدي وغدر الصهيوني، لا بد أن نتذكر أن الشهادة هي ثمن وليست هدفا، هي وسيلة غير منتقاة، لا إرادية، وليست غاية للغزاويين الذين هم في النهاية بشر، كل ما يودونه هو أن يحيون بأمان، يرون صغارهم يكبرون بيسر، ويموتون بفعل السن آمنين، فسرائرهم تماماً كما نتمنى جميعاً. نترحم على كل شهدائنا من الفلسطينيين ونذكر أن الهدف ليس هو الاحتفاء بهم فقط، ولكن إيقاف تدفقهم خارج الحياة، والمحافظة عليهم بداخلها آمنين مصونين سعداء.