«يا ريت تعود»
ليالي القاهرة ليست كأي ليال بالنسبة لي شخصياً، وأتصور كذلك بالنسبة لمعظم من اختبرها وعاش صخبها. قلب القاهرة كما أنه لا ينام ليله فعلياً، هو لا يهدأ درجة عن نهاراته لربما سوى من حيث حرارة الجو ولُزوجته. يصخب ليل القاهرة بالناس والسيارات والأحصنة والمراكب والسفن، يضج بأصوات المتحدثين، غالباً صراخاً، بنداءات الباعة، وبأبواق السيارات التي لا تتوقف مطلقاً. من لا يختبر هذا الصخب الليلي والضجيج السمعي وما يصاحبهما من امتلاء روحي بالحياة، لم يختبر الحياة إلى أقصاها، حيث أقصى أقصاها تجده في القاهرة، وتحديداً في أحيائها القديمة العريقة.
والتجول في الحسين هو معركة خلابة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. يستدير حديثاً سور حديدي مرتفع حول المسجد يمنع الناس من المرور السلس الذي كان إلى حيث المتاجر والمقاهي الشهيرة. حتى أبدأ جولتي، التففت التفافة كبيرة جداً حول هذا السور، التفافة مليئة بالمصادمات والتدافعات الجسدية والدعس على الأقدام، ومروراً بمجموعة من النساء والأطفال والرجال صاخبة الغناء والنشيد تشفعاً بالإمام الحسين عند الجانب الشرقي من السور، والتي وقفت أستمع إليها وأراقب حماستها وتضرعها قبل أن أكمل مسيرتي الملحمية وصولاً إلى طرف المتاجر غايتي. هناك اتجهت مباشرة لشادي، الشاب المصري اللطيف الذي أنشأ مشروعاً لصناعة الحقائب الجلدية، والذي اعتدت أن أشتري منه مجموعة، إعجاباً ببضاعته وتشجيعاً له، كل زيارة لي للقاهرة. تركته آخر مرة وقد كان عريساً، أخبرني الآن أن لديه عمر. غمرتني سعادة الجدة وأنا أرى صور عمر الصغير على موبايل شادي، فداعبته معاتبه، كبرتني يا شادي.
جلست جلسة تمنيتها هادئة في مقهى أم كلثوم، إلا أن فرقة من «عوّاد وكمنجكي» سرعان ما أحاطت بي عازفة «طاير من الفرحة طاير… وحشني شوف الكويت». ابتسمت لكليشيهية الأغنية التي كانت الفرقة تحاول بها مجاملتي تأملاً في نفحة جيدة، إلا أن قلبي سرعان ما خفق خفقة مختلفة واغرورقت عيناي درامياً بشكل لا يليق بالواقعية والجدية اللتين أتوقعهما من نفسي. لي ثلاثة أسابيع خارج الكويت، بعيدة عن الأهل والأحباب، بعيدة عنه، حبيبي وصديقي وابني وزوجي وأمني وأماني. لله دركم أيها الفلسطينيون! البعد حُرقة، والغربة وإن قَصُرت وامتلأت أيامها بالمسرات، وَحشَة وشجن. طلبت من الفرقة لطفاً أن تعزف لي أغنية «عود» لجمال بخيت وأحمد الحجار، فأتت مكسورة النغمة، ولكن رائعة في المشهد المحيط، في ليل الحسين.
عود، الفجر لسه بيبتسم بين دمعتين
عود، الفرح ممكن يتقسم على شفتين
عود، الوهم مات والذكريات قالت لي حبك بالوجود
يا ريت تعود
عمري إلي راح سماح سماح
يا حب أكبر من الجراح
رجع عبيرك للورود
الوهم مات والذكريات قالت لي حبك بالوجود
يا ريت تعود
أخذتني اللحظة إلى انتشاء روحي، تصوفت ذوباناً في أضواء ضريح الحسين وعبق البخور وطقطقات الكؤوس ونسمة الهواء التي مرت على وجهي والكلمات الشجية التي صورت لنفسي أنها رسالة من هذا الذي يسكن روحي. شعرت أن الدنيا ليست سوى اللحظة، هذه اللحظة التي أسكنها، وأن اللحظة شجية وعميقة وحزينة دونه. كان لا بد لي أن أتحرك من مجلسي قبل أن تأخذني الجلالة وأتخلى عن وقار قوة المظهر وضبط المشاعر.
في الشوارع المثنية والمحنية والملتوية، التي تهدد كاحل القدم في كل لحظة، تجولت بين متاجر الفضة التي أعشق، أدخل هنا بسلامي وأخرج من هناك بضحكة رائقة فرضتها الكلمات اللطيفة المتطايرة من بائعي المحلات «يا ويلكام، يا ويلكام، حتلاقي عندي كل إلى إنتِ مش عايزاه». غمرت أصابعي روائح المعدن جراء تفقدي للقطع الفضية في المتاجر المختلفة، اخترت وساومت بفشل، واشتريت وقد انتعشت روحي رغم شكوى جسدي الذي بدأ يئن تحت وقع التدافع الذي قاوم، والحفر التي تفادى، وتداخل الأصوات التي باتت أذني لا تميز بينها. بعد هذه الجولة الثرية المرهقة المليئة بالضحكات والمساومات، اتجهت لمقهى نجيب محفوظ متأملة جلسة رائقة مجاورة للفرقة اللطيفة التي أعرفها خير معرفة، والمكونة من ثلاثة رجال مسنين نوعاً، والغامزين بكوميدية ولطف لكل سيدة تمر عليهم، وكأنهم آتون من مشهد كوميدي لفيلم بالأبيض والأسود من منتصف خمسينيات القرن الماضي. لم يتحقق المراد، ذلك أن التعب المستتب ودرجة الإزعاج وضبابية الصالة بفعل دخان الأرجيلات، منعوني من الجلوس، مما أغضب النادل الذي أجلسني واستقبل طلبي الذي ما لبثت أن ألغيته فورياً. غضبة النادل وخطابه معي، كما غضبة صاحب المتجر في تركيا التي ذكرتها في مقال ماض، تذكرني كلها أن من يخدم في هذه المشاريع هم أصحابها، أو على أقل تقدير من أهل البلد ذاتها، مما يجعلهم أسرع اتجاهاً للغضب، ومما يلغي تماماً فكرة «الزبون دائماً على حق» السيئة والتي تعمل بها معظم متاجرنا ومشاريعنا الخليجية التي تقوم على سواعد موظفين من غير أهل البلد.
قبل أن أغادر هذا المربع الخلاب الذي يبدو وكأنه قطعة من الماضي في قلب الحاضر، مررت بمحل لا بد أن أحكي لكم عنه، متجر يحمل اسم «الزمن الجميل»، الذي أتصور أن له حساباً على إنستغرام. تناثرت على حوائط وأرضية المحل شرائط الكاسيت، التلفونات القديمة ذات الأقراص الرقمية، الكاميرات الأثرية، كتب ومجلات ومجلدات وصور مؤطرة وغراموفونات وغيرها من «الميمروبيليا» التي تأخذك لزمن ليس ببعيد ولفكرة مضحكة مرعبة: لقد تحولت الكثير من هذه الأشياء التي استعملتها أنا شخصياً ذات يوم لأثريات. اشتريت نسخة مهمة من مجلة «آخر ساعة»، التي صدرت يوم وفاة جمال عبد الناصر تأبيناً له، وخرجت أحمل صيدي الثمين محاولة العثور على الشارع العام حيث تنتظرني سيارتي بسائقها الشاب الأسواني اللطيف. لم يكن من الممكن مطلقاً الخروج من متاهة خان الخليلي بلا مساعدة، حيث تقدمني صبي صغير، لربما في العاشرة من العمر، ليقودني بسهولة وسلاسة الخبير في الموقع إلى خارج ملتوياته الضيقة الكثيرة.
في السيارة حكينا كثيراً أنا والشاب سائقها، في تلك الليلة وفي سابقاتها ولاحقاتها من الليالي الكثيرة التي قضيتها في القاهرة. تكلمت وهذا الشاب المسكين الذي ابتلي بي زبونة، عن الفن والفلسفة وتاريخ الأديان، عن السياسة والثورة والمعارضة، عن حفلات الأفراح وتجهيز الشقق والعفش و«القايمة» وملة السرير والنيش والصيني الذي يسكنها وحيداً بلا صحبة مدى الحياة. لربما أحكي لكم المرة القادمة عن أحمد وقصصه المشوقة وعن امتناني لدخوله الحديث في حياتي. إلى حينها…