تحميل إغلاق

البطحة الكبيرة

البطحة الكبيرة

كتبت قبل أيام، بمناسبة حلول موعد انتخابات مجلس الأمة الكويتي، تغريدة “أحرض” فيها أن “لا تصوتوا لامرأة ذات نفس عنصري وصاحبة تصريحات متعالية تمييزية، فقط بهدف إيصال امرأة للمجلس. النسوية ليست امرأة، النسوية فكرة حقوقية إنسانية نظيفة عادلة، من لا تطرحها بوضوح، لا تستحق تصويتكم. من تتعنصر ضد فئة اليوم، هي خطر على مصالح الجميع، فما يحركها هو فكرة غابرة ومصلحة أنانية.” غضب عدد لا بأس به، من أصدقاء وصديقات مقربين بخلاف مغردين آخرين لا أعرفهم، من هذه التغريدة التي وجدوا أولاً أنها تتصادم و”نضالهم النسوي” وثانياً أنها تتقصد مرشحة ما معينة يبدو أنهم يأملون منها، أياً من تكون، إنقاذاً للهوية الوطنية وللأصالة الكويتية إن كان لهذه الجملة معنى واقعي وثقافي وإنساني رصين.

أعيد من خلال مقالي هذا نصحي الثقيل، وكل نصح هو ثقيل في الواقع. لا تصوتوا لامرأة عنصرية فقط بهدف إيصال امرأة للمجلس. أولاً، النسوية لا تتمثل في جسد بيولوجي رغم أنها في عمقها تناقش وتحلل أثر الفروقات البيولوجية وثقل التكوين الأنوثي على صاحبته مادياً ومعنوياً. نعم، تبدأ “المشكلة” من التشكيل البيولوجي الذي يفرق المرأة عن الرجل ويؤطرها أنثى منذ لحظة ولادتها، إلا أن هذا التكوين ينتج عنه أنثى، لا نسوية، بمعنى، أنه في حين أن المرأة قد تكون أنثى بجسدها، تعاني معاناة الأنثى وتعيش كل ظروفها، إلا أنه يمكن أن تكون ذكر بعقلها، يمكن أن تبث أفكاراً ذكورية تضطهد بها نفسها وتقلل من خلالها قيمتها هي بحد ذاتها كإنسانة. ألا تعيش الكثير من النساء بالمقاييس الذكورية، فيكرهن “خلفة” البنات ويؤمن بالتقاليد التي تضطهدهن ويشجعن القراءات الدينية التي تتواضع بمكانتهن الإنسانية بل ويدافعن عنها ويذن بأرواحهن دونها؟ أليست هذه نساء بجسدها وذكور بعقولها؟ إذا أردنا أن نوصل امرأة لمجلس الأمة الكويتي، وإذا أردنا لها أن تحدث فرقاً في قضايا المرأة بشكل فاعل وحقيقي، فعلينا أن نوصل نسوية بعقلها لا أنثى بجسدها.

ثانياً، لا تنحصر النسوية اليوم في قضايا المرأة تحديداً، نعم هي تنطلق منها ولكنها أبداً لا تقف عندها ولا تنحصر فيها ولا تعليها عما عداها من قضايا إنسانية وجندرية. المرأة التي تحمل نفس عنصري مبني على أساس عرقي أو طائفي أو إثني أو حتى قومي هي امرأة بجسدها ولكنها، مرة أخرى، ليست نسوية المنطلق. إذا كانت مرشحة ما للبرلمان الكويتي تقدم المرأة الكويتية عمن عداها، ترى فيها قيمة إنسانية أرفع من قيمة المرأة المقيمة مثلاً أو المرأة عديمة الجنسية أو المرأة الفقيرة أو المرأة العاملة في المنزل، فهذه مرشحة لا تقدم خطاب نسوي. لربما هي تقدم خطاب سياسي جاذب، خطاب شعبوي شهي، لكنها لا تستخدم اللغة النسوية الإنسانية. بالتأكيد نتوقع، استحساناً، من النائبة البرلمانية أن تحافظ على حقوق المواطنات وأن تعمل من أجل مصالحهن واستحقاقاتهن وقضاياهن، ولكن ما لا يمكن أن نقبله هو أن تعلي هذه النائبة المرأة الكويتية عن نظيراتها من النساء بدافع من جنسيتها، أن تفرق بينها وبين بقيتهن على أساس التقسيم الجغرافي والانتمائي القومي الحديث، هذا الانتماء الذي وبالرغم من الاعتراف بفضله في تنظيم العالم، لا يمكن أبداً أن ننسى مضاره البالغة في تقسيم البشر وتعزيز العنصريات بينهم وتشكيل نوع من دين متطرف جديد يتصارع مواطنوا هذه الدول من أجل الذود عنه حد الموت.

نريد أن نوصل امرأة نسوية للمجلس لا امرأة بجسدها فقط. لا نريد أن نمكن رجل تقليدي آخر، عقل ذكوري إضافي والذي وإن استجاب للشوفينيات العرقية والقومية الشهية، إلا أنه سيضر لا محالة بالقضايا الإنسانية عامة وبقضايا المرأة خاصة، وتأمين هذه القضايا هو أساس استقرار المجتمع واستتباب الأمن فيه. المرأة عنصرية التفكير مثلاً لن تنصف الكويتية المتزوجة من غير كويتي، لن ترى في أبنائها كويتيين مستحقين لجنسية أمهم، ستذهب مذهب التفكير الذكوري الذي يعتقد أن سلسال دم الذكر هو القول الفصل وأن المرأة إنسان على الهامش لا يؤثر في تكوين السلسلة البشرية أو في تعريف امتدادها. ستعتقد، كما يعتقد نظيرها الذكوري، أن دخول أبناء الكويتية من غير الكويتي في المجتمع “سيلوث” الدم الكويتي و”سيعبث” بالهوية الوطنية، هذه الهوية المسكينة التي شوهوا معناها وأضاعوها لكثرة ما لاكوها بالألسنة والأسنان وبصقوها مع أول اختبار إنساني حقيقي.

لام علي البعض توجيهي النصح حصرياً حول المرشحة المرأة، وكأن الساحة تخلو من العنصريين الرجال، وهذا لوم ساذج يفرض تبيان ما لا يحتاج لتبيان في الواقع. هو تحصيل حاصل أن نقول لا تصوتوا لرجل عنصري، فهذه هي القاعدة الأخلاقية أصلاً نظراً لأن العمل السياسي كله ومنذ أزله محصور بأغلبيته في الرجال. كما وأن الحرب الانتخابية الحالية لا تناضل لإيصال رجل، فهذا سيصل بواقع الحال وبأغلبية ساحقه، إنما النضال الجندري الحالي ينحصر في إيصال امرأة، وأحياناً في حمية النضال، ننسى أن نحمي القيم الإنسانية والأخلاقية فنأرجحها ونزحلقها من أجل تحقيق “الهدف الأسمى” كما نراه، مخففين عن أنفسنا ذنوبنا بمبررات “العوض ولا القطيعة” وبأن امرأة بنصف قيم أفضل من لا امرأة مطلقاً. وأنا أقول الإنسان صاحب نصف القيم، رجلاً كان أو امرأة، هو في الواقع أخطر من عديمها، فهو ضرر مستتر تحت ظل أنصاف القيم التي يُظهرها، هو إنسان يسير المخادعة، عظيم الضرر. لذلك، لربما يجدر بنا أن نتوقف عن اختيار أفضل الأسوء وأن نسعى لإيصال أفضل الأفضل للواجهة مدفوعين بهدف الفائدة العامة عن تلك الخاصة التي طالما حركتنا ووجهت خطونا.

لم أكن أتمنى أن أستثير الغاضبين والغاضبات، إلا أن الحقيقة هي أنني لست أنا من أغضبهم، إنما هي “بطحتهم” الكبيرة على رأسهم التي “نقحت” عليهم بالألم. فلو لم تكن موجودة، ما أوجعتهم، خصوصاً وأنني أولاً لم أذكر إسم في التغريدة ، وثانياً لم أتقصد واقعياً امرأة بعينها، ذلك أن هناك أكثر من مرشحة لربما، في قراءتي، يسري عليها هذا التوصيف. الموجوع عليه بكمادات باردة على البطحة، لست أنا مسؤولة لا عن وجودها على رؤوسكم ولا عن إيلامها لأجنابكم، وسلامتكم من الشر، وموسم انتخابي كويتي طيب للجميع.

اترك تعليقاً